لا نعرف تاريخ شعوبنا ومنطقتنا معرفة صحيحة ودقيقة، لأن الحكام هم من يكتب التاريخ، بحسب أهوائهم ومصالحهم. وعندما نتحدث عن تاريخ سورية الحديث والقديم، فإننا لا نعرف منه إلا القليل وبشكل مشوه. لكننا نعرف تاريخنا الراهن، الذي تكتبه الشعوب العربية بحناجرها ودمائها في حراك شعبي واسع. وقد سمعنا كيف كان العرب، في خمسينيات القرن الماضي، ينتفضون ويتظاهرون تفاعلًا مع الأحداث الكبرى، مثلًا، ضد العدوان الثلاثي على مصر، ودفاعًا عن فلسطين، وفي محاربة مختلف المشاريع الاستعمارية.
انطلقت ثورات الربيع العربي مع نهاية عام 2010، وكانت البداية من تونس الخضراء، ثم تبعتها الثورات في ليبيا ومصر واليمن وسورية، وجرى حراك شعبي في دول عربية أخرى، مثل المغرب والجزائر والبحرين، ولكنه سرعان ما توقف لأسباب مختلفة.
شارك ملايين الناس، وأغلبهم من الشباب، في تلك الاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات، وتلقوا بصدورهم نيران أجهزة المخابرات وقوات الجيش، وأريقت دماء طاهرة، وكان الزخم الأكبر في سورية، حيث دفع الشعب ثمنًا غاليًا جدًا لمطالبته بالحرية والكرامة.
بعد التحرر من الاستعمار الأجنبي؛ حصلت انقلابات عسكرية سمّيت “ثورات” في مصر وسورية والعراق واليمن والجزائر وليبيا وغيرها، لكنها في الحقيقة لم تكن ثورات، بالمعنى الكامل للكلمة، لأنها قضت على أنظمة قديمة وطرحت شعارات جديدة تمس حياة الطبقات الفقيرة والشرائح الاجتماعية العريضة، ولكنها -مع الأسف- أقامت أنظمة جديدة شمولية حرمت المواطن من حريته في التعبير وإبداء الرأي والمشاركة الفعلية في تقرير مصير وطنه، والأخطر من كل ذلك أنها حرمت الإنسان من كرامته، حيث حولته إلى رقم في قطيع يصفق متى يشاء الحكام الجدد، ويصمت متى يشاؤون، وفي كل الأحوال، ما عليه إلا تمجيد النظام الجديد وترديد شعارات براقة جوفاء لا قيمة عملية لها، مثل الوحدة والحرية والاشتراكية والأمة العربية والأمة الإسلامية، تنادي بالإصلاح والديمقراطية وتعلن أسماء أحزاب سياسية ونقابات شعبية.
لقد دعمت الجماهير كل الانقلابات “الثورات”، وتفاءلت بها خيرًا، لكنها سرعان ما أُحبطت وشعرت أنها تكبلت بسلطات ألعن من سابقاتها. فالأنظمة التي تم الانقلاب عليها، كان فيها حد أدنى من الحقوق والحريات والأمان. لكن الأنظمة “الوطنية التقدمية” الشمولية أساءت إلى الإنسان وانتهكت كرامته وحرمته الأمان، بحجة الحالة الثورية والأحوال الطارئة، ومارست في إطارها المحاكم الميدانية أبشع الإجراءات بحق النخب الوطنية والمواطنين الأبرياء.
وأهمّ ما حُرم منه المواطن في هذه البلدان هو الحقوق السياسية، إضافة إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية. ومن يتابع الثورات العربية الحديثة؛ يشهد بأنها كلها ركزت أساسًا على التغيير السياسي وإسقاط الأنظمة السياسية، ولم ينادوا بالخبز والعمل إلا في أبعاد محدودة جدًا.
إذن؛ كانت الثورات العربية ثورات سياسية بامتياز، فتغيير السلطة هو شرط ضروري وغير كاف للثورات الحقيقية، لأن المفروض أن تجري ثورة جذرية شاملة تغيّر نظام الحكم السياسي، ومن ثَم تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والقيمية، وتفضي إلى بناء دولة مدنية تقوم على تساوي الناس أمام القانون من دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو الطائفة أو الجنس.
لذلك فالأنظمة العربية كانت -وما زالت- تخشى، أكثر شيء، حديث الناس في السياسة، فالحديث عن موضوع السلطة والسياسة عمومًا هو من المحرّمات.
عام 2011 هو بداية مرحلة الثورات العربية الكبرى، التي كشفت زيف وخداع الأنظمة العربية التي تسمي نفسها “وطنية”، لكنها في جوهرها أنظمة استبدادية فاسدة.
وللردّ على هذه الموجة العارمة من الثورات العربية الحقيقية؛ تدخلت القوى العالمية والإقليمية ودعمت الثورات المضادة. وقد كانت سورية هي الساحة الأصعب والأكثر دموية ومأسوية، نظرًا لخصوصية البلد من حيث موقعه الجيوسياسي إلى جانب “إسرائيل”، ولطبيعة النظام الذي خدم “إسرائيل” والقوى العالمية، ولعلاقة ذلك بالتركيبة القومية والدينية المتنوعة.
شهدنا كيف أن دولًا إقليمية وعالمية انخرطت بكل قوتها لدعم النظام السوري، وتم استجلاب وتفعيل قوى قومية ودينية متطرفة وإرهابية لإجهاض الثورة، إلى جانب أن الشعب السوري كانت تنقصه الخبرة والرؤية والآليات لإنجاح الثورة بعد عقود عجاف من الحرمان السياسي. فأغرقوا الثورة السورية في متاهات الأسلمة والعسكرة، وحصروها في الزاوية الصعبة، وتمكنت القوى المتكالبة ضد الثورة من تنفيذ أجندات خبيثة، مستغلة ظروف الثورة وتعقيدات الصراع الدائر، فتمّ تدمير البنية التحتية وتهجير الملايين، وقتل حوالي مليون سوري، واعتقال مئات الألوف، ودخلت سورية في دوامة العنف والصراع التي أصبح من الصعب تحديد أطرافها بدقة. وخلال ذلك تمكنت عدة دول من احتلال أجزاء من سورية، وفرض هيمنتها على القرار السوري، سواء لدى النظام أم المعارضة، في وقت تمت فيه تصفية أهم الناشطين، وإجبار بعضهم على مغادرة البلاد، لإنهاء الحراك الثوري الشبابي الذي يعتبر الأخطر على النظام.
وعلى الرغم من أن بعض القرارات الدولية التي اتخذت كانت لصالح الثورة، لأنها أقرّت بضرورة التغيير السياسي، فإنها لم تمتلك آلية التنفيذ وكانت غير إلزامية للنظام، الذي استمر حتى اليوم في سلوكه الإجرامي وتمرّده على كل القرارات الدولية، مدعومًا من دول كبرى كروسيا، وإقليمية كإيران وغيرها.
قد يستغرب البعض من بقاء نظام الأسد حتى اليوم. ولكننا إذا راجعنا مسيرة الثورة والمواقف الإقليمية والدولية عرفنا الأسباب. و”إذا عُرف السبب بطل العجب”، كما يقول المثل.
كاد أن يسقط النظام في 2012، فأمرت إيران “حزب الله”، ذراعها العسكري في لبنان، بالتدخل في سورية للدفاع عن الأسد وعصابته المجرمة، وعندما لم يتمكن “حزب الله” من حماية الأسد؛ تدخلت إيران بحرسها الثوري والميليشيات الطائفية التي استقدمتها من بلدان مختلفة، بذريعة الدفاع عن المقامات الشيعية المقدسة والأخذ بثأر الحسين. وفي الوقت نفسه ساهم النظام وقوى استخباراتية عالمية في تشكيل حركات إرهابية، مثل (داعش) و(جبهة النصرة)، تحت شعارات مزيفة، وكأنها تمثل “الإسلام السني”، ليشوهوا صورة الثورة الشعبية الوطنية النقية. علمًا أن من واجبنا أن نعترف اليوم، بعد مضي 9 سنوات تقريبًا من انطلاقة الثورة، بأن الفصائل الإسلامية المسلحة كان أغلب قادتها مرتبطين بجهات خارجية تموّلهم، وأنهم اهتموا بمصالحهم الخاصة، حيث تحولوا إلى أمراء حرب، يقمعون الحريات في المناطق المحررة، ويتاجرون بدماء الشهداء وبقوت الناس البسطاء. والمعارضة السياسية كان أداؤها لا يقلّ سوءًا عن المسلّحة، لأن أغلبها ارتهن لجهات أجنبية.
كل العالم تحالف لإجهاض الثورة السورية، لأنها أعظم ثورة في التاريخ منذ قرون. ولو نجحت الثورة السورية؛ لغيّرت وجه المنطقة والعالم. وليس صدفة أن روسيا -كدولة نووية وعضو دائم في مجلس الأمن ومن أشهر الدول في صناعة الأسلحة- تدخلت لإنقاذ النظام الأسدي. ألا يحتاج ذلك إلى نقاش عميق من أجل فهم الحقيقة.
برأيي، إن قرارًا اتخذ منذ بداية الثورة السورية في 2011 بعدم السماح بإسقاط نظام الأسد، العريق بعمالته وخدمته لإسرائيل والقوى العالمية. وأتذكر كيف كنت أستغرب جدًا عندما كان يؤكد لي أصدقاء من الطائفة العلوية، أن الأسد باقٍ، ولو أدى ذلك إلى حرب عالمية ثالثة. فمن أين لهم هذه الثقة؟ يبدو أن القرار الدولي الفعلي تسرّب عن طريق بعض المراكز، بأن هذا النظام جزءٌ من تحالف دولي خفي تقوده “إسرائيل” والولايات المتحدة، وتؤدي روسيا فيه أدوار معينة (كون النخبة الأوليغارشية في روسيا تابعة للأوساط الغربية، اقتصاديًا وماليًا وفكريًا واجتماعيًا وحتى سياسيًا).
واتُّخذ القرار بحماية النظام الأسدي، على أعلى مستوى، في الدوائر العالمية السريّة. وكان التنفيذ لروسيا والنظام وإيران وقوى أخرى إقليمية، لأن لها مصالح جيوسياسية. والدليل أن الأوروبيين والأميركيين كانوا يقولون لنا -منذ انطلاقة الثورة السورية- اذهبوا إلى روسيا فإن الحل بيدها. ولكنّ ما نشهده اليوم، بالرغم من أن روسيا بالواجهة، أن الحل ليس بيدها، بل بيد أميركا و”إسرائيل”، أما روسيا فتعمل من خلال التنسيق معهم (القمة الأمنية الثلاثية الأميركية الإسرائيلية الروسية في إسرائيل منذ أشهر).
صحيح أن الغرب أسقط نظام القذافي، وخسرت روسيا مصالحها هناك، وصحيح أن أميركا أسقطت نظام صدام حسين، وخسرت روسيا هناك، وقبلها أسقط الناتو يوغوسلافيا وخسرت روسيا، وكذلك قبلها في أفغانستان خسر الاتحاد السوفيتي مصالحه هناك وآل إلى التفكك. ولكن الوضع اختلف تمامًا في سورية بسبب الجوار الإسرائيلي المقيت.
في سورية، التقت مصالح الدول الإمبريالية الأميركية والروسية، وبدرجة أقلّ الغربية. ولكن ماذا عن إيران التي خدمت بشكل هائل المشروع الأميركي الإسرائيلي الروسي!
أعتقد بكل ثقة بأن المشروع الفارسي يلتقي مع المشروع الصهيوني، ويخدمه ويلتقي مع المشاريع الأميركية والروسية في خطوطها العريضة. وإلا كيف هيمنت إيران على العراق، بعد أن قامت أميركا بإسقاط نظام صدام فسلمته لإيران!!! وكيف سمحت أميركا و”إسرائيل” لإيران بالهيمنة على سورية واليمن ولبنان؟ ولماذا لم تدمّر “إسرائيل” المفاعلات النووية الإيرانية، واكتفت بالتهديد والتحريض الدعائي الكاذب على إيران. ويجب ألا ننسى أن هناك صداقات تاريخية قديمة بين اليهود والفرس. وبأن الثورة الإسلامية الإيرانية قامت بدعم غربي، وجاء الخميني على متن طائرة فرنسية خاصة إلى طهران، وطبعت أولى أوراقه السياسية في المطابع الأميركية، وكان هناك مستشارون أميركيون للخميني، باعتراف شخصية كبيرة جدًا مقربة من الخميني! لماذا؟ لأن الخميني أدى دورًا في المنطقة يخدم بشكل مباشر الخطط الأميركية الإسرائيلية، في خلق حالة الفوضى وإشعال الحروب المدمرة، من خلال نشر الطائفية وتشكيل ميليشيات مسلحة تقوم بتقويض الدول وجعلها عاجزة عن القيام بأبسط مهامها تجاه المواطنين. هذا ما حدث في العراق وفي لبنان وفي سورية، حتى في اليمن.
من هنا نفهم أن الثورة السورية والثورات العربية هي ثورات ذات أبعاد إقليمية وعالمية، لأنها تهدد دور نظام الملالي، وكل الأجندات الغربية الداعمة للصراعات الطائفية في المنطقة. وانتصار الثورة السورية وإسقاط نظام الأسد يعني زوال مصدر للمشاكل والقلاقل، كان يلهي شعوب المنطقة. والاستقرار ليس من مصلحة “إسرائيل”.
كما يجب أن نتذكر أن بريطانيا والاتحاد السوفيتي وأميركا ساهموا في خلق “إسرائيل”، كبؤرة توتر في قلب المنطقة. وفرنسا خلقت الطائفية في سورية، وما زلنا نعاني آثارها حتى اليوم. وإن قيام “إسرائيل” بدعم (قسد) وحزب الاتحاد الديمقراطي في الجزيرة السورية، ما هو إلا لعب واستخدام بشع للورقة القومية للكرد (يعني حق يراد به باطل)، لإثارة الصراعات القومية في المنطقة. ولكن الذي استعجل وقال إن الربيع العربي ما هو إلا “خريف” عربي، فإنه خاطئ ومتوهم.
فها هي الثورات في السودان والجزائر تحقق الانتصارات، وهناك ثورات سياسية بامتياز في العراق ولبنان أبرزت بكل جدارة أنّ الشعوب العربية لم تمت، بل هي حية وقادرة على أن تقلب الطاولة على من استباح أوطانها. الثورات السياسية في لبنان والعراق قامت ضد الأنظمة السياسية المستبدة الفاسدة، بالرغم من أن تلك الأنظمة تدعي أنها تحكم وفق توافقات طائفية. ولكن هذه المحاصصات الطائفية ما هي إلا قناع للنهب والفساد والعمالة والتبعية وبيع الأوطان وسيادتها لقوى خارجية، في مقدمتها إيران الملالي.
لقد اكتشفت الشعوب أن كل من يتاجر بشعارات دينية وقومية وحتى يسارية، لا يمثلونها، وإنما يمثلون مصالح فئات ضيقة تتاجر بتلك الشعارات. والأمثلة كثيرة؛ فالأحزاب القومية العربية مثل حزب البعث، والكردية مثل حزب الاتحاد الديمقراطي، والدينية مثل جماعة الإخوان المسلمين ومن يشبههم، واليسارية مثل الأحزاب الشيوعية والماركسية، التي أثبتت جميعها أنها ذات توجهات أصولية داعشية (كما يقول المفكر اللبناني محمد علي مقلد) فهم جميعًا حاربوا الثورات بشكل صريح أو ساهموا في تخريبها.