مقالات الرأي

عندما ينسى الرئيس أنه رئيس

يعوّل المعالجون النفسيون كثيرًا على حديث مُراجعيهم عن أنفسهم؛ لما لهذا الحديث من دلالات تكشف دواخلهم وما يدور في أذهانهم من أفكار ومتاعب. الإيجابية الثانية لحديث المراجعين عن أنفسهم أنهم يشعرون براحة كبيرة بعد تعبيرهم عن مخاوفهم ومشاعرهم، وكأن هناك أحمالًا ثقيلة أزيحت عن أكتافهم.

باختيار بشار الأسد لقناتَين محليتَين للحديث إليهما؛ يكون قد قرر التحدث مع نفسه. قناتا (السورية) و(الإخبارية السورية) مجرد أذرع إعلامية لبشار الأسد وفروعه الأمنية، وهذا يعني أن اللقاء سيكون أشبه بحديث بين آمر ومأمور، وفي أحسن الاحوال، بين مدير مدعوم وموظفة بعقد مؤقت. هكذا أطلق الرئيس السوري العنان للتعبير عن نفسه بأريحيه واضحة، حتى إنه استهل لقاءه بمحاوريه بأمرهم أن يكونوا صريحين في أسئلتهم، في إيحاء بأنه حتى لو كانت هناك أسئلة جريئة فإنه هو الذي أمر بتلك الأسئلة، على الرغم من أنه في مأمن من أي إحراج كالذي تعرّض له ترامب، الرئيس الأميركي المفضل عند بشار الأسد.

أهم نقطة يكشف عنها الحوار هي أن بشار الأسد لم يرغب في أن يتحدث بوصفه رئيسًا، لتجنب إحراجات غياب دوره في أهم حدثين شهدتهما سورية في الآونة الأخيرة: دخول القوات التركية إلى شمال شرق سورية، ومقتل أبو بكر البغدادي في إدلب.

بالنسبة إلى الحدث الأول، قال الأسد إنه بيد الروس وهو ينفذ ما يطلبونه منه، كما أنه يثق بهم ثقة عمياء، حتى إن المرء يخال نفسه أنه أمام متحدث رسمي باسم الكرملين، يشرح سياستهم ويؤكد صواب رؤيتهم. نسيان الرئيس لنفسه بلغ حدًا بعيدًا إذ إنه لا يرى أي حرج عندما يتحدث بأن التنسيق الروسي مع تركيا يتم دون أن يعود الروس له في أي تفاصيل ودون أن يطلبوا موافقته، هم يقررون ولكنهم -والحق يقال- يخبرونه بما يقررونه. وهذا يكفيه على أي حال. لم يبدُ على الرئيس السوري أي قلق من أن علاقات روسيا مع كل من تركيا و”إسرائيل” هي أهم بكثير من علاقتها معه.

أما بالنسبة إلى عملية قتل البغدادي، فقد فضّل بشار الأسد أن يتعامل معها بالطريقة الشعبية المعروفة التي تحاكي وضع النعامة لرأسها في التراب عند حدوث الأخطار. حيث شكك في العملية، وسخر منها، ثم  أنكر -بكل بساطة- أي علم له بها. اللافت للانتباه أنه أنكر أي علم له بالعملية، وهو يحاول إخفاء ابتسامته، دون أي حرج من أنه يتحدث عن جهله بعملية عسكرية كبيرة تحدث على أرض يعد نفسه المسؤول عنها أمام شعبه وأمام الأمم المتحدة. السؤال المحرج هنا: لماذا لم يخبره الروس بوجهة الطائرات الأميركية التي ذهبت إلى إدلب، على الرغم من أن الأميركان أخبروهم، وطلبوا منهم عدم التعرض لتلك الطائرات؟!

تتوالى التصريحات التي ينسى فيه بشار الأسد أنه رئيس، ومنها إعجابه بصراحة ترامب، ووصفه للرئيس الأميركي بأنه “أفضل رئيس أميركي”، الرئيس الذي يحتل جزءًا من الأراضي السورية، في الجنوب والشمال، والذي بارك للإسرائيليين بالجولان، في آذار/ مارس الماضي. والذي وصف بشار نفسه في أحد تصريحاته بـ “الحيوان”. دون أن يعلم بشار الأسد بأن صراحة ترامب الفجة، التي تعجب بشار الأسد، تعود إلى أن ترامب ينتهج هذه الطريقة، لاعتقاده أن دول الأنظمة العربية -ومنها نظام بشار- أضعف مما كان يعتقد الرؤساء الأميركيون السابقون، وبالتالي من الطبيعي أن يدفعوا ثمن ضعفهم.

بشار الأسد معجب بـ “شفافية” ترامب؛ لأن الأخير قال إنه أكثر ما يهمه في المرحلة اللاحقة هو السيطرة على النفط السوري، من دون أي حديث عمّا يمكنه أن يقوم به لمحاولة استعادة هذا النفط، ولو على مستوى التصريحات الإعلامية. طبعًا نسيان بشار الأسد لهذا النفط يعود إلى أنه كان قد تركه لـ (داعش) و(جبهة النصرة) في عام 2013، ثم سيطر عليه حزب الاتحاد الكردستاني، بعد طرده (داعش). وهذا يعني أنه يتحدث عما ليس له، وما ليس له ليس سوريًا، وبالتالي نسي بشار الأسد أن هذا النفط سوري، لأن ريعه لا يدخل في جيبه. أما في جوابه عن كيفية “الرد” على هذا الاستلاء الأميركي على النفط السوري، والأعمال العدائية لأميركا على سورية عمومًا، فكان الجواب واضحًا: يجب معالجة الأسباب “السوريين العملاء”، وترك الأعراض “أميركا” لوقت لاحق. وهذا يعني بلغة حسن نصر الله أن الطريق إلى إخراج الأميركيين من سورية يتم بمحاربة السوريين العملاء. وهم بالملايين من منظور الرئيس الذي نسي أنه رئيس.

الرئيس الذي نسي أنه رئيس لم ينسَ دوره في الملفات السياسة بل أيضًا على مستوى الوضع الاقتصادي وملفات الفساد. هنا يستمر بشار الأسد أيضًا في لعب دور المعلّق الرياضي الذي يتحدث عن المباراة ويحللها، ويشير إلى أخطاء اللاعبين والمدرب، ولكنه ليس له علاقة بالأمر، ولا يتّحمل أي مسؤولية عن نتيجة المباراة. فالفساد يعود بالدرجة الأولى إلى “القوانين” من دون أن يذكر أن غالبية القوانين وضعت في عهده، ويشير إلى فساد كبار الموظفين من دون أن يذكر أنه ليس لمسؤول كبير أن يعيّن دون أن يدفع أو ينال رضا قصره الجمهوري.

على الرغم من إلحاح المحاورين على الوضع المعيشي الصعب للسوريين، فإن الرئيس السوري نسي تقديم رشًا للسوريين “زيادة رواتب” كما يحدث من حين لآخر، وهذا النسيان الأخير يبدو أنه أكثر ما يزعج السوريين، لأنهم نسوا أدواره السابقة قبل أن ينساها هو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق