ظنَّ ملالي طهران أنهم قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على بلاد الشام مرورًا بالعراق، بعد أن أنفقت إيران مليارات الدولارات، وزجت بعشرات آلاف المقاتلين من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان في سورية، من أجل القضاء على الثورة، من خلال ارتكاب المجازر الرهيبة بحق السوريين قتلًا وتهجيرًا، كما فعلوا في القصير والقلمون وداريّا ووادي بردى ومحيط السيدة زينب وقلب دمشق التاريخي، وكادت إيران أن تنجح كليًا، وخاصة أنها دخلت سورية تحت غطاء الفيتو الروسي وموافقة إسرائيلية، فلم تكن تخشى أي تدخل دولي ضد وجودها في سورية.
إلا أن الثورتين اللبنانية والعراقية فاجأتا الجميع، وقلبتا المشهد رأسًا على عقب، بعد أن صرّح رجل إيران في لبنان زعيم ميليشيات (حزب الله) أكثر من مرة بانتصاره في سورية، وبعد أن تناوب جنرالات الحرس الثوري الإيراني بالتصريح بأن أربع دول عربية باتت تحت السيطرة المباشرة لطهران، وأصبحت تأتمر بأمر قاسم سليماني، ولم يقم مسؤول عربي واحد في هذه الدول باستنكار هذه التصريحات، ولو بشكل خجول، ولا حتى جامعة الدول العربية.
لم تُقدّم إيران -من خلال سياساتها في كل من لبنان والعراق- مشروعًا وطنيًا أو اقتصاديًا لشعب البلدين، ففي لبنان كان جلّ الدعم المقدّم هو دعم فئوي طائفي، ومن أجل الدقّة كان الدعم يُقدّم للموالين للولي الفقيه من كل الطوائف، ولَم يكن لكل الشيعة في لبنان، حيث قدّمت إيران عشرات ملايين الدولارات في السنوات القليلة الماضية للتيار الوطني الحر، الذي دخل بتحالف مع (حزب الله) أوصله إلى السلطة، وذلك بحسب ما صرّح به النائب السابق أشرف ريفي، في كلمة متلفزة، وبقي العنوان العريض لسياسة إيران في لبنان يقول إنه من لا نستطيع شراءه بالمال علينا إخضاعه بالقوة والترهيب، واستطاعت إيران على هذا النحو التغطية على الفاسدين من الحلفاء، وانقسم المجتمع اللبناني بين مطالب بقيام الدولة الوطنية الحديثة، وبين منتفعين ومرتزقة مؤيدين للتبعية التامة لإيران لأسباب مختلفة، فتحالف التيار العوني مع (حزب الله) ليس لقناعة هذا التيار بأكاذيب تحرير القدس، وإنما لكون (حزب الله) أوصل هذا التيار إلى سدة الحكم، وجعله يحظى بتغطية نواب الحزب على فساده، والنتيجة كانت تعرّض الكثير من البنوك والشركات في لبنان لحصار اقتصادي، جعل لبنان في آخر الصف على السلم الائتماني، وتسبب في هزة كبيرة لسعر الليرة اللبنانية.
فجأة، أتى الحراك في لبنان حراكًا وطنيًا عابرًا للطوائف، وقسّم لبنان إلى قسمين: الأول هم الوطنيون الذين طالبوا بمكافحة الفساد وتحسين الاقتصاد ومحاسبة اللصوص، والآخر هو القسم الموالي لإيران في لبنان، وقد عرّى هذا الحراك (حزب الله) تمامًا أمام الشعب، حيث كان الجهة الوحيدة في لبنان التي تمسكت ببقاء الحكومة ورئيس الجمهورية لتبقى الكلمة في لبنان للولي الفقيه، فما يسمونه “العهد” في لبنان يقصدون به العهد الفارسي الذي يحاول تحويل لبنان إلى مجرد محافظة إيرانية.
في العراق، لم تُقدِّم إيران للعراقين -خلال خمسة عشر عامًا- سوى أدوات اللطم والتطبيل، وقامت بتجهيل المجتمع بشكل ممنهج، من خلال اغتيال أساتذة الجامعات والتضييق على بعضهم ودفع الآخرين إلى الهجرة، ومحاربة كل أشكال الحياة الثقافية، فلا سينما ولا مسرح ولا حتى مكتبات في العراق، كما عمدت إلى إفقار العراق من خلال سرقة نفطه من ميناء البصرة، ومن خلال تنصيبها للفاسدين، سواء في الحكومة أو في الميليشيات التي شكّلتها وألحقتها بالحرس الثوري الإيراني، حيث لم يجد الشباب العراقي أمامه سبيلًا للعيش إلا من خلال التطوع في إحدى الميليشيات المجرمة التي حلّت مكان الأحزاب السياسية التي لم يُسمح لها بالظهور، بعد خمسة عشر عامًا من رحيل حكومة البعث.
لذلك، كان خروج العراق عن طاعة الولي الفقيه صاعقًا، حيث اضطر المرشد الأعلى للخروج إلى العلن ومطالبة الأجهزة الأمنية العراقية بضرورة القضاء على المتظاهرين، بصفتهم عملاء وخونة ويتبعون لسفارات خارجية، ولم يأت بدليل واحد على مزاعمه الكاذبة، ومن الصفاقة والوقاحة اتهام شعب كامل بالخيانة، في الوقت الذي يحمل فيه العراقيون مطالب محقة، أما الادعاء بالعمالة فما هو إلا مجرد مبرر لممارسة العنف والإرهاب في وجه الخارجين عن الطوق.
لا يمكن القول إن مشروع إيران في المنطقة سيسقط اليوم، ولكن درجة الوعي التي وصلت إليها الشعوب في العراق وسورية ولبنان تؤكد أن المشروع إلى زوال، وأن هذا الحراك يؤسس لحالة وطنية فوق الطوائف.