يرزح لبنان منذ تأسيسه تحت قيود أنواع عدة من الأنظمة، أهمّها النظام الطائفي والزبائني والأوليغارشي والموناركي، فقامت ثورته الشعبية 2019، بهدف كسر تلك القيود والتخلص من أحد أكثر أنظمة الحكم قبحًا ووحشية في العالم. فقد أنشئ هذا النظام المتعدد عام 1932، إبان الانتداب الفرنسي، حيث تمّ إحصاء اللبنانيين على أساس طائفي ديني، وعندما نال لبنان استقلاله عام 1943، تحوّل هذا النظام المركب إلى نظام الأمر الواقع، حيث تم اعتماد نظام سياسي طائفي، ليكون رئيس الجمهورية مسيحيًا مارونيًا، ورئيس الوزراء مسلمًا سنيًا، ورئيس مجلس النواب مسلمًا شيعيًا. وقد انتقلت عدوى هذا النظام المقيت إلى العراق، عقب الاحتلال الأميركي له عام 2003، فأصبح رئيس جمهورية العراق كرديًا، ورئيس الوزراء شيعيًا، ورئيس البرلمان سنيًا، بنظام محاصصة طائفية حمقاء تعبّر عن حالة من اللاوطنية والعودة وتذكّر بهويات ما قبل الدولة والبدائية المطلقة في الانتماء إلى دولة.
فما هي طبيعة تلك الأنظمة الأربعة التي تحكم لبنان؟ وكيف أثرت في تاريخ لبنان؟
النظام الزبائني: ويسمى أيضًا النظام الغنائمي، وهو نوع من التحالف بين رأس المال والإقطاع السياسي، في إشارة إلى الوجهاء الذين تحولوا إلى الإقطاع السياسي، بعد فقدهم الإقطاع الزراعي التقليدي، وما كان يدعى الدولة المزرعة، في إشارة سياسية إلى الصيغة الغنائمية في الدولة اللبنانية ذات الطابع الزبائني ذي الملامح الباترومونيالية التقليدية مع خاصية كونه لا مركزيًا، بحكم النفوذ الفعلي للوجهاء القائم على المحلية اللاوطنية، وهو ما يفسر سوسيولوجيا الطابع الطائفي للنظام ووظائفه.
كان النظام الزبائني في لبنان، بين الاستقلال واندلاع الحرب الأهلية عام 1975، قائمًا على النفوذ المحلي لوجهاء العائلات السياسية التقليدية، التي تحالفت مع النخب الرأسمالية في إطار نظام سياسي طائفي، ودولة زبائنية، وكانت الباترومونيالية التقليدية فيها واضحة المعالم، إلا أنها تحولت من نظام زبائني تقليدي إلى زبائني غنائمي بشكل آخر، في الحرب الأهلية (1975-1991).
حاول الرئيس فؤاد شهاب، بعد أحداث 1958 والحرب الأهلية الأولى، القيام بإصلاحات جادة، عبر تحويل الدولة الطائفية إلى دولة مركزية، وقام بإصلاحات انتقلت من المركز إلى الأطراف، فحقق العديد من المنجزات على مستوى الاقتصاد والتعليم والخدمات وتقليص الفارق بين الطبقات السياسية وزبائنيتها ونظامها الغنائمي والطائفية السياسية، إذ زاوج بينهما وبين مركزية قوية للدولة اللبنانية ذات طابع وطني، فتمسك بمفاصل النظام والدولة، من خلال الصيغة الغنائمية الزبائنية المعممة، وامتدت الشهابية مع شارل حلو حتى عام 1970، لتنتكس مجددًا مع سليمان فرنجية، وعلى الرغم من أن الرئيس إلياس سركيس يتبع الأسلوب الشهابي ولا ينتمي إلى عائلة سياسية تقليدية، وكان حاكم مصرف لبنان وتسلّم الحكم عام 1976، فإن الحرب الأهلية اللبنانية كانت قد اندلعت، ودخل لبنان عصر نظام الوصاية السورية.
النظام الطائفي: تسبب النظام الطائفي في لبنان في كثير من الكوارث، وهو نظام قابل للحياة والاستمرار، نتيجة تداخله بالنظام الأوليغارشي والزبائني وأسلوب الفساد القائم على تقاسم الدولة، وهو النظام الذي قسم لبنان إلى عدة مزارع بحسب الطائفة، مما يؤكد أنه مشروع لا وطني قائم على المحاصصة، وقد تسبب هذا النظام في حربين أهليتين بالتاريخ اللبناني: الأولى عام 1958، والثانية (1975-1991)، وحاول الزعيم كمال جنبلاط -بالتحالف مع أحزاب عابرة للطوائف- القضاء عليه، لكنه دفع حياته ثمن تلك المحاولات الجادة، وكذلك رفيق الحريري، وسمير القصير، وجبران تويني، وجورج حاوي، وغيرهم، فبمجرد ظهور شخصية وطنية لبنانية مناهضة لهذا النظام تتم تصفيته، من دون النظر إلى العوامل الإقليمية والدول المجاورة والقرارات وتداخلات مصالح الدول.
النظام الأوليغارشي: النظام الذي أسسته فرنسا في زعامة لبنان، فضلًا عن كونه طائفيًا، هو أوليغارشي أيضًا، حيث تتزاوج فيه النخبة الحاكمة مع رأس المال، وبحسب التعريف الفرنسي لهذا النظام، فهو يدل على حكم الأقلية، حيث تكون السلطة محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية، ويُعد لبنان دولة أوليغارشية غالبًا، لسيطرة عائلات نافذة معدودة تورث النفوذ والقوة من جيل إلى آخر، وقد ولّد هذا النظام المزيد من الاختلالات الاجتماعية والاضطرابات والفساد.
النظام الموناركي: حاولت العائلات التقليدية التي حكمت لبنان صناعة شخصية موناركية لكل زعيم طائفي، حتى جاءت الحرب الأهلية والوصاية السورية لتنتقل تلك الموناركية والكاريزما إلى أمراء الحرب اللبنانية والميليشيات الناجمة عنها، إضافة إلى نظام الأسد الأب، الذي ملأت صوره شوارع لبنان، ومن بعده وريثه في حكم مزرعة الأسد السورية، وورث معها لبنان، لتنتقل الموناركية في لبنان إلى رأس نظام الأسد الابن، إلى أن قامت ثورة الأرز، وتمكنت من تحرير لبنان من النظام الموناركي السوري، لكنها انتقلت إلى نظام موناركي إيراني، حيث تملأ صور خامنئي شوارع لبنان، وفرض حسن نصر الله (زعيم حزب الله) النظام الموناركي وحصره بشخصه، فهو غير قابل للمحاسبة على خلفية دينية، ولا المناهضة، فمارس سلطة استبدادية، كنوع من الموناركية الميليشياوية الطائفية، بعد انقلابه وسيطرته على لبنان عام 2007، ومستثمرًا الهالة التي صنعها بعد اندحار “إسرائيل” من الجنوب اللبناني عام 2000، وهو الانتصار الذي صنعه الشعب اللبناني بأكمله كوطن، منذ أول اجتياح إسرائيلي للبنان عام 1978، وحرب تموز 2006، وهي الحرب الأخيرة مع “إسرائيل” التي تسبب فيها بالمزيد من دمار لبنان وتراجعه، وصارت ديون لبنان اليوم 150 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.
اللافت بالثورة اللبنانية 2019،أنها كسرت النظام الموناركي، عندما أطلق المحتجون شعار (هيلا هيلا هووو)، واهتزت صورة ما يسمى “المقاومة” لدى الشعب اللبناني، التي حصرها “حزب الله” الإيراني بميليشياه واستثمرها باسمه لحكم لبنان، إضافة إلى حلفائه بالسلطة الفاسدة، وهي مهتزة بالفعل منذ تدخله لدعم نظام الأسد في سورية عام 2013 في قمع الثورة السورية، فالحركة الاحتجاجية الشعبية تتوسع يومًا بعد آخر، وتم تحقير النظام الحالي الحاكم للبنان، باستخدام ألذع الشتائم على رموز النظام الزبائني والأوليغارشي والطائفي والموناركي، وكان شعارهم واضحًا كالشمس: “كلن يعني كلن”.