أقام مركز حرمون – صالون الكواكبي ندوة حوارية، بعنوان (حوار بين مكونات سورية حول التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تحتاجه سورية المستقبل) وفقًا لمحاور عديدة، وقد اخترت محور “الحوار بين العلمانيين والإسلاميين”.
مقدمة
بعد عقود من الاقتتال والتناحر بين الإسلاميين والعلمانيين؛ أدركت الأغلبية من الاتجاهين أن ذلك الاقتتال كان حالة عبثية ألحقت أبلغ الضرر بهما، وقدّمت خدمات كبيرة للقوى السلطوية النافذة، وتلك المعادية، الأمر الذي دعا إلى ضرورة تجاوز تلك المراحل وفتح صفحة جديدة من الحوار والتفاعل، فكان “المؤتمر القومي – الإسلامي” محاولة لوضع أسس للتوافقات والمشتركات، على الرغم من أن محاولة عدد من النظم، خاصة النظام السوري، توظيفه لمصالحها حالت دون التوصل إلى النتائج المرجوة.
عبر الثورة السورية ومشاركة أطياف واسعة فيها من مختلف الاتجاهات، وما طرحته من شعارات عامة تعني الأغلبية العظمى من فئات الشعب السوري، كان طبيعيًا لقاء عدد من المجاميع والاتجاهات المحسوبة على كل من العلمانيين والإسلاميين، ومشاركتهم في عدد من المؤسسات والهيئات التي قامت، وخوض حوارات (عملية)، في المتفق عليه، والمختلف فيه، وتوقيع جملة من الوثائق المشتركة التي تناولت طبيعة النظام المنشود وهويته ومحدداته.
غير أن تلك التوافقات لم تُزِل، أو تخفي، مجموعة من الخلافات والتناقضات، خاصة تلك التي برزت عبر سنوات الثورة وتطورها، وما عرفته من تعقيدات وانحرافات كان “للإسلاميين” دورهم البارز فيها، وبما وسّع هوة ومسافة الخلافات بين الاتجاهين، وأفسح المجال لعديد الشكوك بمدى صدقية بعض التيارات الإسلامية في ما كانت تطرح من شعارات، وما وقّعت عليه من وثائق، وسمح لعدد من التيارات العلمانية بإطلاق أحكام قاسية، واتهامات للإسلاميين، خاصة أولئك الذين برزوا في قيادات الثورة والعمل العسكري.
توضيح – في تركيبة الاتجاهين:
قبل الشروع في تناول موقعي وأهمية وطبيعة الحوار بين الاتجاهين: العلماني والإسلامي، يجدر التطرّق إلى نقطة مهمة تخصّ تركيبة كلّ من الاتجاهين، خاصة العلماني.
فكلمة علماني، أو اتجاه علماني مصطلح عام وفضفاض، ولا يعني وجود اتجاه واحد، أو حزب موحد، أو كتلة متجانسة، بل هناك طيف واسع، ومتناقض أحيانًا، وخلائطي ضمن ذلك التوصيف. حتى إن كلمة علماني قد لا تكون دقيقة، ولا معبّرة عن أولئك الذين يُحسبون حقيقة، أو نسبًا، أو إلحاقًا، على العلمانية.
هناك اتجاهات علمانية متأثرة بالعلمانية الغربية إلى درجة المحاكاة، خاصة الفرنسية منها التي تعتبر الأكثر صفاء وبلورة بين أنماط علمانية أخرى مختلفة، ومختلطة، وهناك تيارات ليبرالية مصنّفة -مجازًا- على العلمانية، وهم بدورهم خليط متنوع، ومختلف بين ليبرالية اقتصادية فقط تدعو إلى الاقتصاد الحر، والتبادلات المفتوحة، وبين من يجمع الاقتصاد ببعض المداليل الفكرية الأقرب للعلمانية، وبين هؤلاء من يمارس عقائده الدينية، ويرفض فصل الدين عن الدولة. وهناك أشكال من العلمانية المبسّطة، والانتقائية، والتجريبية وداخلهم اتجاهات تحاول المزاوجة بين الدين والنظام العلماني.
العلمانيون شديدو التوزع، ولا يجمعهم تنظيم واحد، وداخلهم تناقضات مختلفة تصل إلى حد العداء بين بعضهم، ناهيك عن الظاهرة النخبوية ودورها وتأثيرها.
بالمقابل، فإن الإسلاميين ليسوا، أيضًا، تنظيمًا واحدًا، أو كتلة موحدة، متجانسة.
حركة الإخوان المسلمين هي الجهة الأبرز المبلورة تنظيميًا، بل حتى ضمن جماعة الإخوان المسلمين السورية -مثلًاـ تباينات واتجاهات مختلفة، وستكون هذه الحالة أكثر وضوحًا بين جماعات الإخوان المسلمين في البلدان العربية، فمواقف حركة النهضة التونسية تختلف عن كثير من الجماعات المحسوبة على الإخوان المسلمين “التقليدية”، أو “الأصولية”، وهناك إسلاميون تركوا تنظيم الجماعة وأسسوا تشكيلات بمسميات مختلفة، بعضها قطع صلاته الفكرية بالجماعة، وهو يؤسس لفكر مختلف يعتمد على محاولة الجمع بين الإسلام والديمقراطية، أو رفض العمل السياسي والاكتفاء بالدعوي، وهناك حركات سلفية متعددة الاجتهادات والمرجعيات الفقهية، ناهيك عمّا يعرف بالحركات الجهادية والمتطرفة.
إلى جانب هذه الفئات، يمكن الحديث عن الإسلاميين المجددين، أو الشباب الذين يحاولون إقامة منظومة معرفية مختلفة عمّا ساد في الحركات الإسلامية التقليدية في محاولة للقيام بحركة حداثية تعيد النظر بالخطاب الإسلامي ومحاولة تجديده.
هناك عدد من الإسلاميين، أو المؤمنين بالإسلام عقيدة ولا يرتبطون بأي تنظيم، يعتبرون أنفسهم حالات فردية لا علاقة لها بجميع التنظيمات الإسلامية.
أولًا – طبيعة الحوار
1 – أهمية الحوار بديلًا للصراع، والاستئثار، ونفي الآخر
إن وعي الانتقال من الصراع إلى الحوار استلزم عقودًا طويلة، حاول كل اتجاه أن ينفي الآخر، ويطرح نفسه البديل الوحيد الذي لا يقبل مشاركة أحد غيره، وحين أقرّت الأغلبية في الاتجاهين وجوب التوجه نحو اللقاء ومغادرة ذلك التاريخ الطويل من الخلاف، استلزم الأمر سنوات، أيضًا، لإيجاد الثقة بين الطرفين، والتأكّد من جدّية التوجهات الجديدة، والقدرة على التغيير، ذلك أنه من الضروري أن تكون شروط تقبّل الآخر، وما يتمّ الاتفاق عليه، متوفرة ليس على صعيد الأفراد فقط، بل في عموم الأطر التنظيمية القائمة، وهو الأمر الذي لم يكن سهلًا، والذي ما يزال يشكل أحد العوائق الواضحة في عدم تقبّل كثير من الأطر لفكرة التوافق، أو تصديق الجدّية في الوفاء بما يتمّ التوصل إليه من التزامات أو اتفاقات.
2 – الإقرار بوجود قوى وتعبيرات لا يمكن شطبها، أو تجاوزها
مع سيادة الذهن الأحادي، والأيديولوجيا الشمولية، والتأثر الشديد لكثير من القوى بالتجربة السوفييتية، وقصص الحزب الواحد، القائد، زمنًا طويلًا؛ تكرّست أشكال من الأحادية التي لا تقبل بوجود أي تعبير سياسي، ولو كان من أرضية فكرية متشابهة، فكيف لمن اعتبر في خندق العدو، والمناقض؟ وجرى العمل على إنهاء ذلك الآخر بوسائل كثيرة منها الاحتواء والفكفكة، ومنها استخدام العنف والتصفية عبر الاعتقالات الواسعة والحرب المفتوحة في جميع المجالات.
وعلى الرغم مما لحق القوى “المناوئة” المُستهدفة من أضرار، وحصار، أكدت الوقائع أن جميع الوسائل التي تستخدم لا يمكن أن تنهي الأفكار التي تجد قبولًا ورواجًا في قطاعات من الشعب. لهذا فإن من أسس الحوار الإقرار بمشروعية وجود قوى أخرى، وحقها في الحياة والعمل، وبأنه لا يمكن شطبها، أو تجاوزها، وأن الحوار والتوافق على المشتركات هو النهج الذي يجب تكريسه.
3 – يجب أن يرتكز الحوار على المفاهيم والمواقف السياسية، والابتعاد عن الجانب الأيديولوجي
الأكيد أن أي حوار يجب أن يرتكز على القضايا السياسية، ويبتعد من الجانب العقيدي الذي يخصّ كل جانب، خاصة بالنسبة إلى الاتجاهات الإسلامية التي تعدّه قدسيًا وغير قابل للحوار.
كما أن التفكير في محاولة تغيير مواقف الآخر، أي تحويله إلى إسلامي، والعكس أيضًا، يلغي أصل الحوار وغايته، ذلك أن العقائد لدى كل فريق لها خصوصيتها، ولا يمكن أن تكون ضمن موضوعات الحوار.
ثانيًا – قواعد وجود واستمرار الحوار
1 – التوافق على أن الحقيقة نسبية، ومتغيّرة
لعل هذه المسألة من أشدّ القضايا تعقيدًا بالنسبة إلى معظم الإسلاميين الذين يرون أنهم يملكون الحقيقة غير القابلة للنقاش، أو التطوير، والتغيير. هنا يجري خلط كبير بين النص وقدسيته، وبين التفاسير، أو علم الفقه، والحديث، بشكل يؤدي إلى الانسداد في أي حوار.
2 – ليست الحقيقة حكرًا، أو ملكًا لجهة بعينها
استنادًا إلى التشبث بامتلاك الحقيقة؛ سوف يعتبر البعض أنها ملكه وحده، وأن المخالف لعقيدة معينة على باطل، وأنه يملك الشرع والمشروعية بما يخندق أي حوار ويمنع وصوله إلى تفاهمات، أو نتائج إيجابية.
3 – الفصل بين العقائد وما يعتبره الآخر الثوابت، وبين المتحوّل السياسي بكل تفرعاته
كما أشرنا في فقرة سابقة، لا بدّ من الفصل الواضح بين الجوانب العقيدية والمواقف السياسية، فالأولى يجب ألا تكون موضوعًا للحوار، وأن يجري الفصل بينها وبين المواقف السياسية بما تتصف به من متغيّرات، وقابليات للتطوير، والتفاهم مع الآخرين.
4 – الاستعداد لقبول الآخر، بدءًا، والإقرار بحقه في الخلاف وفي التعبير عنه
وهو ما أشرنا إليه بدءًا في شروط قيام أي حوار، ويستتبع ذلك الإقرار بحق الآخر في الاختلاف وممارسته، وفي رفض لغة التصنيف والتعليب المسبقين، ولغة التخوين والاتهام، والتركيز على أسس الحوار المتكافئ.
ثالثًا – موضوعات الحوار
1 – الوطنية هي الإطار الجامع
بغض النظر عن موضوعات الحوار، ومدى المسافة والخلاف فيها بين الاتجاهين، فإن المصلحة الوطنية العليا هي التي يجب أن تكون الإطار الجامع، والسقف الذي يحتوي الجميع، وذلك بغض النظر عن تباين الرؤى والمواقف، أو تعارضها.
2 – الإقرار بالتعددية حقًا مشروعًا لجميع الاتجاهات الفكرية والسياسية، وبلورتها ضمن النظام المدني الديمقراطي المنشود
الإقرار بالتعددية يعني حق جميع المكوّنات السياسية والفكرية بالعمل على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، بعيدًا من الأحجام، وتقديراتها، ومنطق الغلبة، والهيمنة.
3 – التوافق على الدولة المدنية الديمقراطية نظامًا ديمقراطيًا تعدديًا، بما يعني:
آ – أنها دولة ليست أيديولوجية.
ب – حيادية الدولة تجاه العقائد والأيديولوجيات.
ج – تقوم على مؤسسات منتخبة أساسها الفصل بين السلطات وحرية واستقلالية القضاء.
د – تقرّ الحقوق لجميع المواطنين، بغض النظر عن جنسهم وقوميتهم وأديانهم ومذاهبهم، على أساس المساواة التامة، والنصّ على ذلك في دستور يكرّسها.
هـ – إقرار دستور عصري تطرحه المؤسسات التشريعية، والدستورية، على الاستفتاء العام.
و – عدم توظيف الدين في السياسة، وإيجاد الصيغ الواقعية لعلاقة الدين بالدولة عمومًا، وبالدين الإسلامي تحديدًا نظرًا لما له من خصوصية في أنه دين الأكثرية، ودوره التاريخي في تشكيل شخصية الشعوب العربية وكينونتها، وفي وحدة اللغة، والتاريخ المشترك.
رابعًا – موضوعات الخلاف
على الرغم من وجود اتفاق عام على صيغة الدولة المدنية الديمقراطية التي كرّستها وثائق مؤتمر القاهرة للمعارضة (تموز 2012)، ووقّعت عليها حركة الإخوان المسلمين، وعدد من الاتجاهات الإسلامية، فإن خلافًا واضحًا برز ويبرز حين مناقشة بعض التفاصيل المتعلقة بهوية الدولة، ومن أهم نقاط الخلاف:
1 ـ موضوع موقع الدين في الدولة؛ هل يكون بتطبيق الشعار المعروف بـ “فصل الدين عن الدولة”، أو بإيجاد صيغ بديلة كـ “إبعاد الدين من السياسة”؛ وبالتالي منع قيام أحزاب على أساس ديني؟
2 ـ موقع الشريعة الإسلامية من التشريع، هل هي المصدر الرئيس؟ أم مصدر رئيس؟ أم مصدر من مصادر التشريع.
3 ـ قوانين الأحوال الشخصية؛ هل تكون حصرًا على ما ورد في التشريع الإسلامي؟ أم يمكن أن تكون أشمل؟ وهل يمكن الإقرار بحق الأديان الأخرى بتطبيق النصوص الخاصة بها في الأحوال الشخصية؟
4 ـ دين رئيس الدولة؛ هل يجب تحديد ديانة رئيس الدولة بشرط أن يكون مسلمًا؟ أم فتح المجال لجميع المواطنين للترشّح، بغض النظر عن دينهم وجنسهم؟
5 ـ حق المرأة في تولي مناصب رفيعة في الدولة كالقضاء، والترشّح لرئاسة الجمهورية.
خامسًا – مخاوف متبادلة
معظم العلمانيين يتخوفون من مستقبل مواقف الحركات، أو الاتجاهات الدينية بأنها لن تكون ملتزمة بما تطرحه في مرحلة ما قبل قيام الدولة التعددية المنشودة، وأنها ستنقلب على أي اتفاق حين تصبح في السلطة وتعود إلى أطروحاتها (الحقيقية)، أو (الأصلية) خاصة جماعة الإخوان المسلمين التي تلتزم بمقولات المرشد حسن المؤسس حسن البنا، بأن “الحاكمية لله”، وأن إقامة الدولة الإسلامية هدف الأهداف المنشود.
من جهة أخرى، فإن المقولة الديمقراطية بالقبول بنتائج الانتخابات النيابية، وغيرها في المجالس المحلية، هي مقياس الديمقراطية، وميزان التعامل اللاحق يحمل لدى كثير من الاتجاهات العلمانية مخاوف ضمنية لتراكب مجموعة من الأسباب، ومنها:
1 – أن الانتخابات، في ظل موازين القوى بين التشكيلات السياسية والفكرية، مختلة مسبقًا لصالح الاتجاهات الإسلامية، بسبب القدرات المالية المتوفرة لها والمحرومة منها مختلف الاتجاهات العلمانية، وما يستتبع، وينتج عنه إمكانات في التأثير في رأي الناخب وصوته، فضلًا عن طبيعة المرحلة الانتقالية وما تعرفه البلاد من صعود التيارات الإسلاموية، وما تلقاه من دعم الدول الفاعلة بالشأن السوري.
2 – عدم وجود ضمانات للانقلاب على أي اتفاق أو على صيغة الدولة القادمة، بعد الفوز بأكثرية في مجلس النواب مثلًا، وامتلاك مشروعية تشريعية تنسف الصيغة المتفق عليها عن الدولة المدنية، التعددية، الديمقراطية.
في المقابل؛ إن وجود متطرفين علمانيين لا يؤمنون بأي تشارك أو توافق مع أي اتجاه إسلامي، ويطرحون صيغًا منقولة عن الدول الأوروبية الأكثر تشددًا وتطبيقًا لما يُعرف بـ “اللائكية” التي حققت فصل الدين عن الدولة كلي.. وعديد الأطروحات المشابهة، يزرع المخاوف في الأوساط العلمانية، ويتجلى ذلك في:
1 – نفي الإسلاميين، باتجاهاتهم المختلفة، من المشاركة في السلطة، والعمل على استئصالهم بمختلف الوسائل.
2 – اعتبار فصل الدين عن الدولة حالة إلحادية معادية للدين الإسلامي بوجه الخصوص.
3 – قابلية بعض العلمانيين على الاستنجاد بالقوى الخارجية، لتكريس نظام علماني متطرف ضد الإسلاميين.
خاتمة
على الرغم من وجود هذه التباينات، وصعوبة الاتفاق على جميع النقاط الخلافية، يبقى الحوار هو السبيل الوحيد، وهو الذي يعبّر عن وعي المصلحة الوطنية ومقتضياتها، في مواجهة التحديات الخطيرة التي تجابه وطننا، وفي توفير الشروط الأفضل لإقامة دولة ديمقراطية تجسّد أماني السوريين بمختلف أطيافهم وتوزعاتهم.
__________
(*) الندوة المشار إليها هي ندوة الحوار الإسلامي العلماني حول سورية – الحاضر والمستقبل، التي أقامها مركز (حرمون) للدراسات المعاصرة في إسطنبول، في 19 و20 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.