تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

لماذا يرفض نظام الأسد العلمانية؟

بعد الاجتماع الأول -إن جازت تسميته اجتماعًا- لما يسمّى “اللجنة الدستورية”؛ ظهرت تسريبات مفادها أن وفد النظام رفض بإصرار فكرة العلمانية، وقد أثار هذا بدرجةٍ ما الاستياء في أوساط المثقفين العلمانيين على وسائل التواصل الاجتماعي!

فهل من غريب في الأمر؟!

نعم، إنه من الغريب أن يستغرب أو يستهجن مثقفون علمانيون هذا الموقف من النظام، الذي ما يزال يثبت بشكل جلي وقطعي أنه لا يتغير ويرفض التغيير، ولن يقبل بأي تغيير إلا إذا فُرض عليه فرضًا!

وإن كان أولئك المثقفون يحملون اللجنة الدستورية على محمل الجد؛ فهذا قطعًا ليس موقف النظام السوري، الذي أعلن رئيسه بكل صراحة أخيرًا أنه غير ملتزم بما تتوصل إليه هذه الجنة، وهذا بطبيعة الحال يعكس الموقف الضمني لهذا النظام من هذه اللجنة، التي يشارك فيها شكليًا، ولا يرى فيها أكثر من غطاء مسرحي لاستكمال حله العسكري، واستعادة ما يمكن له استعادته بالعنف من المناطق التي ما تزال تسيطر عليها بعض الفصائل المعارضة.

أما إذا أردنا أن نفسر سبب رفض النظام للعلمانية؛ فعلينا أن نعود إلى تاريخ هذا النظام، الذي كان فيه دومًا رافضًا للعلمانية والديمقراطية، ما يعني أن موقف ممثلي النظام في اللجنة الدستورية ليس فيه أي شيء جديد، وما هو إلا استكمال لمسيرة هذا النظام الدكتاتوري، الذي لن يرفض ممثلوه في تلك اللجنة العلمانية وحدها، بل سيرفضون معها كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تحقيق الديمقراطية -ومن ضمن ذلك العلمانية نفسها- لأن مهمة هذا الوفد الحقيقية ليست المشاركة الجادة في عملية إعداد دستور وطني حقيقي يُخرج البلاد من كارثتها، ويضعها على خط التطور الفعلي السليم ممثلًا ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية، ولكن المهمة الحقيقية لهذا الوفد هي عرقلة عمل اللجنة والمماطلة ووضع العصي في الدواليب، وقد بدا هذا واضحًا في طرح وفد النظام أن تعمل اللجنة مدة ساعتين فقط، ما يعني استمرار عمل اللجنة سنوات، وربما عقود، وتحولها إلى مهزلة فارغة من أي مضمون.

لماذا يرفض النظام العلمانية؟

هذا ما تجيبنا عليه طبيعة النظام نفسه، فهو نظام حكم طائفي، فهل من الممكن له أن يقبل بالعلمانية التي تعني قبل أي شيء آخر إبعاد الطائفية والمللية من الحكم؟

هذا أمرٌ يستحيل أن يقوم به هذا النظام، الذي يريد للحالة الطائفية أن تستمر، لأن استمراره مرهون باستمرار هذا الداء الطائفي، فإبعاد الطائفية عن مؤسسة الدولة، سيكون له تأثير مماثل على مستوى المجتمع، وعندها ستنكفئ الطائفية، ولن يبقى لها مفعول، ولن يبقى لكل ما هو مرتبط بها وجود، بما في ذلك النظام نفسه.

النظام السوري هو فعليًا ليس سوريًا ولا عربيًا، وإذا أردنا تسمية الأمور بمسمياتها الصريحة فهو نظام طائفي، وجوده مقترن ببقاء الطائفية المتناقضة مع العلمانية، فما دامت الطائفية مستشرية، فبمقدوره التلاعب بالورقة الطائفية بأخبث الأشكال، وتسويق خرافة “حماية الأقليات” العنصرية، التي استثمر فيها واستغلها إلى أبعد الحدود في مواجهته للثورة.

يريد النظام للطائفية أن تبقى، لكي يستمر ولاء أبناء طائفته له، إما بحكم التعصب الطائفي الأعمى أو بسبب الرهاب من الأكثرية السنية، التي لا يريد لها النظام هي الأخرى أن تتخلص من التعصب والتطرف، لأنهما ضروريان تمامًا، لكي تبقى فزاعة الخطر التكفيري قائمة، وصالحة للاستخدام لتخويف كل الأقليات الدينية، ودفعها إلى اللجوء إلى هذا النظام، الذي سيظهر عندها بمظهر الحامي لها من وحش الأكثرية.

أما النظام العلماني الحقيقي، فهو يتناقض بشكل جذري وجوهري مع هذا النظام الطائفي.

فهذا النظام الطائفي يحتاج إلى الطائفية ليضمن ولاء الأقليات المرعوبة من الأكثرية السنية، نتيجة تكريس الذهنية الطائفية عبر عقود حكم هذا النظام، ودفع هذه الأكثرية خلال الصراع الذي حرفت إليه الثورة إلى إنتاج أسوأ ما لديها ممثلًا بالحركات التكفيرية، كـ (داعش) و(النصرة) وما شابهها، وللنظام نفسه يد طويلة في إنتاج هذه النماذج، التي تخدم خرافته كحام للأقليات.

لكن ليس هذا ما يريده هذا النظام من الطائفية فحسب، فهي نفسها ضرورية أيضًا لهذا النظام ليتلاعب بالشارع السنّي نفسه، فهذا النظام يعي بخبث أن ليس من مصلحته أن يضع الأكثرية السنية بثقلها الكبير ضده، فهو يحتاج إلى أن يستعدي قسمًا منها فقط، بما يكفي لتخويف الأقليات من إرهاب الأكثرية السنية التكفيري، ولكنه لا يريد أن يقع في الخطر الكبير لمواجهة كل هذه الأكثرية، التي يريد فيها نفسها موازنة القوى بين أعدائه وحلفائه، ولكي يضمن وجود حلفاء في صفوف السنّة، فالنظام يعتمد على ولاء عدد من رجال الدين المعروفين والنافذين، الذين جهزهم لهذا الغاية، وهؤلاء هم فعليًا ناشرو ثقافة دينية بشكل يخدم هذا النظام، سواء في حالة حربه المفتعلة مع التكفيريين، أو في حالة السلم، التي يريد فيها هذا النظام ولاء نسبة كافية من الجمهور السني، وهذا ما يتناقض تمامًا مع السياسة العلمانية، فولاء رجال الدين هؤلاء وجمهورهم مقرون ببقاء الوضع الديني على حاله.

وهكذا يمكننا أن نصل إلى الخلاصة التالية التي تفسر موقف ممثلي النظام في مسرحية اللجنة الدستورية:

  • هذا يحدث بشكل ينسجم تمامًا مع طبيعة وسياسة هذا النظام الدكتاتوري الطائفي، الذي كان معاديًا للعلمانية والديمقراطية إلى أقصى الدرجات، وتلاعب بدرجة مماثلة بالأوراق الطائفية واستغلها بأخبث الأشكال.
  • النظام ليس غبيًا، وهو يدرك أن العلاقة بين العلمانية والديمقراطية هي علاقة وثقى متبادلة التأثير، ما يعني أن العلمنة هي دمقرطة في الوقت نفسه، والعكس بالعكس، والنظام الدكتاتوري يريد أن يحافظ على الدكتاتورية، وهذا يقتضي منه رفض كل من العلمانية والديمقراطية، فإذا كان رفض الديمقراطية الصريح يسبب الإحراج لهذا النظام، وينهي هزلية الحل السياسي، فإن رفض العلمنة يمكن للنظام أن يحمّل مسؤوليته للشارع المتدين بأكثريته السنية المحافظة.
  • هذا الرفض أيضًا يأتي انسجامًا مع مهمة وفد النظام الحقيقية في اللجنة الدستورية، المتمثلة بعرقلة عمل هذه اللجنة، ومنعها من التوصل إلى أي نتيجة تؤثر سلبًا في مصلحة هذا النظام الذي لا يريد أن يتنازل عن أي شيء مما استحوذ وسيطر عليه عبر عقود طغيانه.
  • أيضًا، هذا الرفض يأتي كرشوة من قبل هذا النظام لحلفائه من رجال الدين السنيين، وقد شاهدنا في الفترة الأخيرة العديد من هذه الرشوات ذات الطابع الإسلاموي، التي يسعى من خلالها النظام لزيادة عدد أنصاره في الشارع السني وتقوية ولائهم له.

لذا لا غرابة بتاتًا في سلوك بيادق النظام في لعبة اللجنة الدستورية، وهو رفض عديم الأهمية بمضمونه، ولكنه بالمقابل ذو أهميته فعلية في جانب آخر، كونه يعطي دليلًا واضحًا عن نيّات النظام الحقيقية، وعن الطريقة التي سيتصرف بها لاحقًا خلال عمل هذه اللجنة المزعوم، فإن استمر ذلك في اللقاءات القريبة القادمة، فعلينا أن نقرأ بشكل سريع الفاتحة على روح هذه اللجنة، لأن ذلك لا يعني عدم جدية النظام في إيجاد حل سياسي وحسب، فهذا أمرٌ مفروغ منه، ولكنه يعني أيضًا عدم جدية القوى الدولية الفاعلة، وفي طليعتها روسيا، لإيجاد حل مقبول يخرج سورية من كارثتها إلى برّ الأمان، ويعني أن روسيا المنتصرة ميدانيًا ستسعى إلى إعادة إنتاج النظام السوري بشكل لا يختلف عن سابق عهده الدكتاتوري، ليكون الخادم المناسب لمصالحها، دون أي مبالاة بمصالح الشعب السوري.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق