مقالات الرأي

“عرب الخدمة” مجددًا

مصطلح توصيفي سبق أن كتبتُ عنه وحوله، وهو يصف الأوروبيين من أصول عربية أو من مناطق تسودها الثقافة العربية، بأنهم يسعون بكل ما أوتوا من جلمود صخر لأن يُثبتوا اندماجهم الثقافي والسياسي والاقتصادي، إلى درجة التطرف. مما يُظهر لهم أن شتم الذات سيؤتي أكله ويجعلهم في مصاف الاحترام المقابل. كما يشمل هذا التوصيف من يتم تنصيبهم في مواقع مسؤولية منهم، والذين، في مناصبهم المهمة نسبيًا، يقترفون سياسات إقصائية يخجل المواطن “الأصلي” من مقاربتها.

يبرز دور من يتبع هذا “المذهب” خصوصًا في الأزمات، حيث يصبح الطلب مرتفعًا على خدماتهم الثمينة. وفي فرنسا، تبدأ الخدمات من رجل دين إسلامي جاهل يزور “إسرائيل” مثلًا، ليُصرّح بإعجابه بمدى ديمقراطية البلد ومدى معاناتها من إرهاب المسلمين. كما يتهافت بعض المعلقين الأمنيين من أصول عربية على أستوديوهات التلفزة والإذاعة لكي يهرفوا بما لا يعرفوا، مؤكدين شبهات التطرف الشاملة لجميع المسلمين، ومجتهدين زورًا بتفسير بعض النصوص، على أساس أنهم من أهل البيت، ليحملّوها ما يُناسب خطاب المرحلة، بما يُعزّز من تطور واستمرار موجة الرهاب من الإسلام. يُضاف إلى هذا وذاك، عرب خدمة ينشطون في الحياة السياسية، بحسب الحاجة، حيث نرى مجموعة منهم في أحزاب اليمين المتطرف خصوصًا، مما يعطي هذه التجمعات الفاشية “مشروعية” عدم إقصاء المكونات المختلفة ويبرئها من العنصرية.

أن تسعى الأحزاب، كما وسائل الإعلام، كما سواها من الأطراف المنتفعة، إلى استغلال بعض العرب وبعض المسلمين، فهذا يمكن اعتباره تكتيكًا ذكيًا يُحسب لها. بالمقابل، أن يصبح بعض من يبحث عن بقعة تحت الشمس أو المصابين بعقد ذاتية ناجمة عن تراكمات ضياع الهوية، وإلى آخره من الأسباب المعنوية والمادية والنفسية، ضحيةً أو مطيةً لهذه الديناميكيات، فهنا يُصبح التساؤل عن بنية هذه الجانحة ومآلاتها في ظل ما تعيشه أوروبا من معارك حقيقية أو متخيلة تُهدّد أمنها واستقرارها كما تدّعي، أو هي تجعلها مشجبًا لكي تحرف الأنظار عما هو أكثر جدية وعمقًا من الاختلالات التكوينية التي تنخر جسدها.

يتطوع البعض، عن سابق إصرار وتصميم، دون أن يقع في أي فخ مسبق التدبير أو أن يكون ضحية لمؤامرة، أو دون أن يُساق إلى ما لا تُحمد عقباه من مواقف، لكي يقول في المسلمين الأوروبيين ما لم يقله عتاة العلمانيين المتطرفين في الغرب عن الإسلام والمسلمين. ويكاد المرء يشعر بأن هذا الصنف من المتطوعين يراقب بصمت مستوى التجديف بالعقل، والذي تمارسه بعض الأقلام وتلوكه بعض الألسن، ليتموضعوا بدورهم على أقصى يمينه تعبيرًا وتلميحًا، وشاعرين بالنشوة المعنوية، وحتى التي يمكن أن تصل إلى الجسدية، المرتبطة بتطوّر أدوارهم وانتقالهم من مرحلة البوق الذي يُردّد ما يُملى عليه، والتي طال المطال فيها، إلى مكانة أرفع وأسمى خضوعًا، بحيث يصبحون في قيادة الجوقة التي يقوم صاحبها بتوزيع أدوار العزف على مجموعة واسعة ومتنوعة من الأدوات، أخص بالذكر منها الأبواق والطبول. وهذا الصنف يتطور بتطور الحاجة إليه مستندًا إلى قاعدة اقتصاد السوق القائمة على العرض والطلب. وبعيدًا من التفسيرات الميركانتيلية والنفسانية، فإن التموضع العقائدي أيضًا يمكن أن يلعب دورًا كبيرًا في توجيه الاختيارات. إذا تضافر مفهوما “كره الذات” و”عرب الخدمة”، فسيصبح المزيج متفجّرًا للغاية، ويمكن له أن يُطيح بكل الحدود الأخلاقية والمهنية، ويحمل من يتضافر في عقليتهم المفهومان إلى الإقدام بجسارة لا حدود لها على ممارسة خدمة الآخر بتثمير كره الذات.

خرجت تظاهرة ضخمة نسبيًا في العاصمة الفرنسية منذ عدة أيام، للتنديد بالرهاب من الإسلام والعداء للمسلمين الذي تسجل استطلاعات الرأي ارتفاعه بصورة تبعث على القلق. وقد شاركت مجموعات يسارية متعددة في التنظيم والدعوة إلى هذا التجمع، إلى جانب الجمعيات الإسلامية على تناقضاتها وتبعياتها المختلفة. وأضيف إلى هذا الخليط غير المتجانس عمومًا، ولكن المتفق خصوصًا على هدف التجمع، أهم النقابات العمالية والجمعيات المعادية للعنصرية. وفي ظل جهل مستشر بالتركيبة المعقدة للمجتمع الإسلامي الفرنسي، كما الجمعيات الإسلامية، تغذيه مجموعات ضغط مالية مرتبطة بدول عربية تساند الثورات المضادة، فكل ما خرج به كارهو الذات وعرب الخدمة من انتقادات، انصب على اتهام المتظاهرين بالوقوع في فخ الإسلاميين المتشددين، ومن هم بالنسبة إلى جهابذة التحليل الاستراتيجي والفاست إعلام؟ إنهم “الإخوان المسلمون”. فقد صارت أبواق باريس تشبه أبواق الإعلام المصري التي ترى إخوانًا في كل المصائب والنوائب. وتعزيزًا للجهل العلمي والمحدودية الثقافية، يقوم عرب الخدمة في فرنسا باتباع مدرسة السهولة والتسخيف، ليروا إخوانًا في كل ما يرغبون في التنديد به، لأن الكلمة صارت “بيّاعة”.

وفي إجابة واضحة على الاتهام بالتواجد في تجمع يحتوي بعضًا من المتطرفين، وإن لم يثبت ذلك، صرّح قيادي شيوعي فرنسي قائلًا: “لقد حضر التظاهرة المنددة بالإرهاب الذي أصاب باريس سنة 2015 قادةٌ سفاحون كثر من زعماء العالم، وهذا لم يمنعنا من المشاركة”. لقد وصل جهل عرب الخدمة وكارهي الذات إلى أنهم ركّزوا هجومهم على دور مزعوم لـ “الإخوان”، متناسين أن بعض المنظمين ندّد بقانون 1905 الذي يؤسس للعلمانية الفرنسية. كان لهؤلاء الجهلة المتفرنسين أن يستغلوا هذا الأمر ليظهروا ذكاءً، ولو محدودًا، ولكنهم اختاروا أن يثبتوا العكس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق