إذا كان معلومًا لدى الجمهور طلبات المتظاهرين في لبنان، التي ما زالوا يكررونها منذ أربعين يومًا، وهي عبارة عن حكومة تكنوقراط تنقذ لبنان من كارثته الاقتصادية، وتسهم في تحسين الوضع المعاشي لعموم اللبنانيين؛ فإن من غير المعلوم ولا المفهوم ماذا تريد القطعان التي هاجمت المتظاهرين، صباح الاثنين الماضي.
أفصح المهاجمون عن أماكن سكنهم (الشياح والغبيري) وذلك من خلال هتاف يحمل من البذاءة ما يمنع من نشره هنا، كما أفصحوا عن هويتهم المذهبية، لكنهم لم يفصحوا مطلقًا عن طلباتهم، إلا أنهم ضد ثورة لبنان، حيث كانت كل هتافاتهم ضد الثورة، وضد آلاف الموجودين في ساحة رياض الصلح وتقاطع جسر الرينغ، وقد أنهوا حفل الشتائم برمي الحجارة على الطرف الآخر، قبل أن يعودوا أدراجهم إلى حيث أتوا.
لغير اللبنانيين، يجب التوضيح أن منطقتَي الغبيري وجورة الشياح (موطن المهاجمين) هي من أشد المناطق فقرًا وكثافة سكانية، وليستا من المناطق المتميزة التي ينعم سكانها بعيش رغيد وبحبوحة اقتصادية، وأغلبية السكان هم من الفقراء، بل إن كثيرًا منهم يعيش تحت خط الفقر، عاطلًا عن العمل، ويكاد التطوع في صفوف ميليشيا (حزب الله) هو فرصة العمل شبه الوحيدة المتوفرة لهؤلاء.
بالعودة إلى تاريخ (حزب الله)، منذ عام 1982، نجد أن المهاجمين هم بالأصل ضحايا، ضحايا سياسات هذا الحزب المنهجية بإفقار وتجهيل محيطه الاجتماعي على مدار ثلاثة عقود، والقول إنها سياسة ممنهجة ليس قولًا مُرسلًا، إنما هو قول موضوعي ينطلق من واقع الناس في هذا المحيط، فما إن يبلغ الطفل السابعة من عمره، حتى تراه مع أهله في المناسبات المتكاثرة لـ (حزب الله) ويصبح هذا الطفل في منظمة أشبال الحزب، ويدخل مراحل غسيل الدماغ التي توصله إلى أن يكون أحد أفراد قطيع “غزوة جسر الرينغ”.
أعمال الترهيب التي مارسها القطيع لم تقتصر على التعدي اللفظي والجسدي على المتظاهرين السلميين، بل امتدت إلى الأملاك الخاصة، حيث قام أفراد القطيع، في أثناء انسحابهم، بتحطيم نوافذ المنازل وزجاج السيارات، على طول الطريق التي انسحبوا منها، تاركين وراءهم شعارات على الجدران تحيي (حزب الله) وزعيمه حسن نصر الله.
لقد كانت الغزوة بمجملها عبارة عن رسالة لطيفة ومخففة من (حزب الله) و(حركة أمل) إلى الشعب اللبناني، مفادها إما حكومة يتم تشكيلها برضى الحزب وإما لا حكومة والفوضى، والانفلات الأمني هو البديل، وما جرى خلال “الغزوة” هو مثال بسيط، يسبق نزول القمصان السوداء بسلاحهم الكامل لاحتلال بيروت فعليًا وعلانية، وهنا قد يصطدم (حزب الله) مع الجيش، في مواجهة مجهولة النتائج، في ظل تردد دولي تجاه قرار واضح حول ما يجري في لبنان.
(حزب الله) منذ انطلاق الحراك، يعلم يقينًا أن معادلة (الجيش – المقاومة – الشعب) لن تكون مقبولة بعد اندلاع ثورة تشرين، وأنه وسلاحه في مهبّ الريح، لذلك هو على يقين مطلق بأن عليه كسب هذه المعركه وإلا؛ فسيكون مصيره الخسارة والانكسار إلى الأبد.
بالعودة إلى “القطيع”، فإنه من شبه المستحيل إقناع من يظن نفسه بطلًا، بأنه مجرد ضحية مغسولة الدماغ، فهم بحاجة إلى نقل قسري من حالة الاستلاب العقلي الكامل، وإعادة تأهيلهم نفسيًا وفكريًا، كي يعوا أنهم فعلًا كانوا ضحايا، وأن الحياة أوسع من جورة الشياح والغبيري، وأن في الحياة أشياء جميلة غير اللطميات، والموت في سبيل الزعيم الذي لا يرى فيهم أكثر من حطب لمعاركه التي لا تنتهي.