مقالات الرأي

بين بغداد وبيروت… جديدُ الثورتين

استكانت أنظمة الاستبداد العربية إلى ما حققته الثورات المضادة من نتائج باهرة، حين أنهت ثورات عدد من الشعوب العربية مشرقًا ومغربًا، إما بنظم أشدّ استبدادًا وعنتًا، أو بحروب ونزاعات لا تنتهي، أو بوضع بلادها مرتعًا لقوى إقليمية ودولية تزرع في أرجائها القواعد العسكرية، أو تحتل أجزاء منها وتحيل ما يزعم أنه حكم وطني إلى حكم أجير لا يملك من أمره شيئًا. هكذا خُيِّلَ لها أنَّ رغبة أو همّة الشعوب في الثورة قد خبت، وأن ما كان ربيعًا عربيًا قد استحال شتاء لا ينتهي، وأن أحدًا منها لن يغامر مرة أخرى ويدفع الثمن الباهظ الذي دفعته الشعوب العربية الثائرة منذ عام 2011 حتى الآن.

سوى أن العمى الذي يصيب المتعطشين إلى السلطة، ما إن يمسكوا بمقاليدها، يحول على الدوام بينهم وبين رؤية ما حولهم. فالسابع من أيار/ مايو عام 2008، حين احتلت ميليشيا “حزب الله” وحركة (أمل) بيروت، وكان ذلك بمنزلة إعلان صريح لهيمنة القرار الإيراني عبر وكيلَيها المحليَين على القرار اللبناني السيادي، بقي حاضرًا في ذاكرة اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم ومناطقهم. لا لأنه كاد أن يكون منطلقًا لحرب أهلية جديدة، ولا لأنه عنى للبنانيين أن قوة السلاح بأيدي حفنة موتورة طائفيًّا منهم باتت هي الحَكَم الوحيد في إدارة شؤون الدولة اللبنانية فحسب، بل لأنه عنى خصوصًا أن مصيرهم صار بين أيدي هذه الحفنة، بوصفها وكيلة دولة أجنبية تحكمها دكتاتورية ولي الفقيه، يأتمرون بأوامره وينفذون سياساته في بلدهم. وخلال السنوات التي توالت من بعد، تعدّدت الحكومات التي كانت ترعى أوامر المهمات التي كان الوكيل الإيراني المحلي يسمح أو يأمر بها، ولم يكن عنوان رفضها الكبير إلا ما حملته الشعارات التي رفعها اللبنانيون جميعًا، يوم قرروا النزول إلى الشارع منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، مطالبين الجميع (كلهن يعني كلهن) بالرحيل، من أجل القضاء على الفساد والنظام الطائفي الذي يحول دونهم ودون استعادة بلدهم/ وطنهم بعد أن فقدوه وافتقدوه.

كذلك كان حكام العراق الذين توالوا على الحكم، بعد أن جاء أوائلهم صحبة القوات الأميركية لحكم بلدهم، وهم يشهدون احتلاله من قبل قوة عظمى شتتت جيشه وفككت دولته وقتلت مئات الألوف من أبنائه، وانتهت إلى وضع البلد تحت تصرف دولة مجاورة، ذات مطامع توسعية إقليمية معلَنَة، كانت في حرب معها طوال نيِّفٍ وثمانية عشر عامًا (1980 ـ 1988). وحلَّ محلهم، من بعد، حكام لم يكونوا يخفون نزعتهم الطائفية والانتقامية، بعد أن قبلوا وضع أنفسهم تحت أوامر ولي الفقيه ومعاونيه في بلدهم، بغية الاستيلاء على السلطة، “بالطرق الديمقراطية”، كي يعيثوا فيها فسادًا ونهبًا، ويجعلوا من شعب بلدٍ شديد الثراء مرتعًا للفقر وللمرض وللقتل بلا حساب. شعبٌ نزل هو الآخر بكل مكوناته إلى الشوارع، في بداية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، يندِّد بالفساد والفاسدين، ويطالب برحيل الجميع من أجل نظام وعقد اجتماعي جديدَين.

لا يمكن أن نرى في حراك الشعبيين، العراقي واللبناني، إلا برهانًا على أنَّ حركة الشعوب العربية الأخرى، من أجل استعادة حقوقها المسلوبة في الحرية وفي الكرامة وفي وطن حرّ، لم تنته بعد. يعرف الشعبان الثائران اليوم أن الثمن غال. ومع أن هناك قواسم مشتركة عديدة، بين حراكَي الشعبَين في العراق وفي لبنان، بالرغم من خصوصية كل منهما، أهمّها هيمنة إيران على مركز القرار في الدولة، ووجود قوة مسلحة محلية تضمن بسلاحها ما تستطيع ضمانته والاستفادة منه في كل ما تقرره مؤسسات دولة ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، تهيمن على مقدراتها طبقة من السياسيين الفاسدين أو المأجورين، فإن طريقة مواجهة النظام السياسي ككل تتطلب التكيّف مع الوضع السياسي والتعبوي في كلا البلدَين. لن يكون بوسع “حزب الله” وحركة (أمل) في لبنان التصرف -على سبيل المثال- في مواجهة الحراك، كما يمكن للحشد الشعبي في العراق أن يتصرف في مواجهته، هذا دون المقارنه بطبيعة الحال مع نظام يهيمن على كل شيء في حياة شعبه، كالنظام الأسدي في سورية، أو كنظام ولاية الفقيه في إيران. كلا الحراكين في العراق وفي لبنان اختار الاحتجاج السلمي بصورة مطلقة. لكن النظام السياسي القائم هنا وهناك لا يمكن أن يتحمل أعباء مثل هذا الحراك، ولذلك يعمل منذ الأيام الأولى على احتوائه بطرق تتفاوت بين الاعتراف بشرعية مطالبه، مع العمل عبر مندسيه على تشويه سلمية الحراك من خلال ممارسات عنيفة تتيح للسلطة الاعتماد عليها في مواجهة الحراك للتشكيك في أهدافه، أو التشكيك في أغراض الدافعين إليه وبانتماءاتهم، في الوقت الذي تعترف فيه بأحقية المطالب المعلنة من ناحية، وبين ممارسة القمع بقوة السلاح من دون أي تمييز إزاء المتظاهرين السلميين، من ناحية أخرى.

كان سلوك الحكومة العراقية يتجلى عبر صوتين متناقضين: صوت الحكومة التي تزعم حماية المتظاهرين والاعتراف بحقهم في التظاهر السلمي، وصوت الرصاص الذي يقتل يوميًا عشرات المتظاهرين السلميين على أيدي القوات العراقية الأمنية. فمن يعطي الأوامر بالقتل إذن؟ ومن هو المسؤول؟ إما أن هناك من القوى من يتجاوز أوامر أو إرادة الحكومة الشرعية، أو أن هذه الأخيرة هي التي تعطي الأوامر بالمواجهة العنيفة من دون أن تجرؤ على الاعتراف بذلك. سوى أن كل المتابعين للوضع العراقي الداخلي لا يمكن إلا أن يعترفوا بأن ثمة مصادر عدة للأوامر، ومنها بطبيعة الحال “الحشد الشعبي” الذي يعمل تحت إمرة الإيراني، قاسم سليماني، قبل أن يستجيب لأوامر قائد الجيش العراقي.
لكن المتظاهرين يعرفون أن الثمن غال. وهاهم يقدمون كل يوم ضحاياهم من أجل تحقيق ما يطالبون به: استعادة عراقهم.

يختلف الوضع في لبنان؛ حيث إن هناك ثلاث سلطات فعلية يمكن أن تواجه الحراك الشعبي: الحكومة، والجيش، وميليشيا “حزب الله” وحركة (أمل). هناك الحكومة التي لا تستطيع مواجهة الحراك بالقوة، بعد أن أعلن رئيسها دعمه لمطالب المتظاهرين مؤكدًا هذا الدعم بتقديم استقالة حكومته من ناحية، ورفضه تشكيل حكومة لا تستجيب حرفيًا لمطالب المتظاهرين من ناحية أخرى؛ وهناك الجيش الذي يعمل على ضمان استمرار سلميّة الحراك؛ وأخيرًا هناك “حزب الله” وحركة (أمل)، أي من يمسك بالقرار الفعلي في الدولة اللبنانية، والذي لا يزال يحاول تنويع طرق المواجه بالتهديد تارة أو بالترهيب تارة أخرى بواسطة عناصره الأمنية التي، وهي تحلّ محل قوات الأمن، تمارس أقصى درجات العنف إزاء المتظاهرين، مستهدفة إرهابهم وزرع الخوف في أنفسهم لعلهم يتراجعون.

تحاول السلطة في كلا البلدين أن تتعرف إلى ممثلي الحراك، بزعم رغبتها في الحوار معهم، من أجل ضمان الاستجابة لمطالبهم. لكن أحدًا من الحراكين في بيروت أو في بغداد لم يقدم ممثليه. وأكبر الظن أن أحدًا منهما لن يفعل. فقد تعلموا الدرس من سورية ومصر وليبيا: القتل أو السجن، كي تضمن السلطة بقاء الحراك الشعبي بلا رأس. ومن ثمَّ، كان جوابُ المشاركين في الحراك هنا وهناك، رجالًا ونساءً، شبابًا وكهولًا، جوابًا واحدًا، يُقال بلا قناع على الوجوه، ولا يبدو على الوجوه أثناء نطقه أدنى ملمح من ملامح الخوف أو الرهبة. وهو يتمثل في هذه الكلمات التي يردِّدها عددٌ كبير منهم، أمام مختلف مراسلي الصحافة العربية والعالمية: “نحن نراهن على تصميمنا وصمودنا”. وقد يكون هذا هو الجديد حقًا، في هذا الامتداد اللبناني والعراقي لربيع عربي ظنّ بعض الواهمين أنه قد انتهى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق