بات واضحًا للعيان، اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن شعوب المنطقة (ومعها شعوب كثيرة في العالم) قد ضاقت ذرعًا بأنظمتها السياسية، ولم تعد قادرة على تحمّل سياسات الغباء والتجاهل والعنصرية والطائفية والمافيوزية واحتكار السلطة والتمييز الاجتماعي/ السياسي/ الاقتصادي التي تفرضها تلك الأنظمة بطرق مختلفة على شعوبها. فتلك الروح الثورية التي نراها تجوب العالم معلنة الرفض والرغبة الجذرية في التغيير والاعتراف (من سانتياغو في تشيلي إلى هونغ كونغ، ومن بيروت إلى طهران مرورًا ببغداد)، هي متابعة بشكل أو بآخر، لا سيّما في منطقتنا، لما بدأته موجة الثورات الأولى وحركات الاحتجاج الشعبية الهائلة التي ضربت عواصفها العالم العربي منذ عام 2011، وهي رسالة واضحة لدكتاتوريات المنطقة وأنظمتها الفاسدة وحماتهم العالميين، بأن الثورات المهزومة في كل من سورية ومصر وليبيا واليمن والبحرين، لم تثن عزيمة الشعوب الأخرى، وأن الدرس الدموي الذي حصل في سورية، وأُريد منه تعليم الشعوب الأخرى الصمت، وتعليمهم أن ثمن الحرية لا يقل عن الموت أو النزوح أو الهجرة أو الخراب، أو كل ما سبق معًا.. ذلك الدرس لم يؤت أكله، كما أرادته السلطات المسؤولة عنه، ولم ينجح في إعطاء النتائج المرجوة منه… بعد.
من الجهة الأخرى لحركة الشعوب، بات واضحًا للعيان أيضًا في السنوات الأخيرة، ولا سيما منذ عام 2013، أن هناك ما يشبه التحالف العالمي، المباشر وغير المباشر، لقوى السلطة المناهضة والمضادة لحركة الشعوب.
في منطقتنا يبدو ذلك التحالف بأوضح صوره، مركبًا بين قادة يجمعهم غياب التاريخ الديمقراطي للبلاد التي يحكمونها ونقص الشرعية الشعبية لحكمهم، وميولهم المتأصلة نحو الطغيان والبقاء المؤبد في السلطة وتوريثها، لكن تفرقهم العداوات البينية والمصالح المتناقضة، فالمشترك بين السيسي والأسد، أو بن سلمان والخامنئي وأردوغان، أو قادة لبنان والعراق، أكبر بكثير من كل الاختلافات البينية بينهم، لكن تقاطع تلك السلطات، وتحالفها مع القادة وصّناع القرار السياسي الدولي من أمثال ترامب أميركا وبوتين روسيا وشي جين بينغ الصين، يقدم غطاء عالي المستوى لدكتاتوريات المنطقة، سواء بشكل مباشر، على طريقة بوتين روسيا الذي بات أكبر حُماة السفاحين في القرن الحادي والعشرين، وأول رعاة الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة والعالم، أو بشكل غير مباشر على الطريقة الصينية والأميركية، فالتوجه الترامبي؛ وقبله الأوباموي، نحو سياسة الالتفاف إلى الداخل، وعدم التدخل المباشر، و”أميركا أولًا”، والانسحاب العسكري من المنطقة، فتح الباب أولًا لتمدد المشروع الإقليمي الإيراني، ثم فتح الباب ثانيًا لعودة روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط أقوى مما كانت سابقًا أيام “الاتحاد السوفييتي”، حيث باتت روسيا هي الخيار البديل والأكثر موثوقية للأنظمة التسلطية من أميركا نفسها، ولم يعد ممكنًا تمرير أي حل سياسي أو عسكري في المنطقة من دون روسيا. أما ثالثًا وأخيرًا، فقد أدى التراجع الأميركي المترافق مع صعود اللاقطبية الدولية من جهة، وصعود اليمين الشعبوي في كل أميركا نفسها ومعظم دول أوروبا والبرازيل والهند من جهة أخرى، إلى إعطاء جرعة عالية من الثقة بالنفس لجميع الأنظمة الدكتاتورية في منطقتنا، وتركهم أحرارًا في اتخاذ القرارات المتعلقة بشعوبهم الثائرة، سواء أكانت تلك القرارات حربية وإبادية (كما هي حال سورية) أو قمعية سياسية في باقي الأنظمة، حيث يراوح فيها القمع والحلول العسكرية والأمنية والسياسية تبعًا لظروف كل دولة، ومدى توتاليتارية كل نظام.
ذلك التناقض المعولم، بين إرادة الشعوب وتحالف قوى التسلط، يبدو كسردية تاريخية جديدة تتجاوز تناقضات العالم القديم، التي بنيت مرة على ثنائية عالم فقير مقابل عالم غني، ومرة على الاستعمار مقابل حركات التحرر العالمثالثية، ومرة على عالم شيوعي مقابل عالم رأسمالي، فالرأسمالية والإمبريالية اليوم في الدول الفقيرة والدول الشيوعية السابقة (والحالية، مثل الصين) أشرس ألف مرة، من الرأسمالية في بيتها الغربي الذي صنعها، حيث يحددها هنا آلاف القوانين التي تضبطها وتحد من ظلمها وشراستها، عبر قوة المجتمع المدني وقوانين الرعاية الاجتماعية والصحية والقوانين الضريبية والقوة المؤسساتية، بينما تنفلت الرأسمالية في الدول العالمثالثية والشيوعية القديمة لتقودها مافيات اقتصادية هائلة، متحالفة ومتشابكة مع مافيات السلطات الحاكمة وخاضعة لها في كل الأحوال، مما يترك المجتمعات عارية وغير محمية بأي قوانين، تحكمها العصابات التي تعتاش على امتصاص الاقتصاد الوطني وسرقة الموارد وتبييض الأموال ورفع التفاوت الاجتماعي لأقصى الحدود، من دون أن يجرؤ أحد على محاسبتها.
سيحدد المنتصرون في تلك المعركة الدائرة بين تحالف السلطات وحركات الشعوب ضدها ميل التاريخ المعاصر، فميل التاريخ ليس خطيًا، كما ظنت الأديان السماوية، أو الفلسفات التاريخية (إن كانت مثالية على الطريقة الهيغلية، أو مادية على الطريقة الماركسية)، ولا تقوده الروح المطلقة من الأعلى ولا الاقتصاد من الأسفل، ومن جهة أخرى، فإن التاريخ لا تصنعه الشعوب على الطريقة الغنائية السائدة في التحليل السياسي، بل إن الأمثلة التي صنعت فيها السلطة شعوبها وتاريخ شعوبها أوضح بكثير من الأمثلة المعاكسة، حيث يمكن القول إن قادة من أمثال هتلر وستالين وبوتين والخميني والخامنئي، على سبيل المثال، صنعوا تاريخ شعوبهم وغيّروا مصيرها، عندما قتلوا الملايين منها خدمة لأيديولوجياتهم، بينما يكتب الأسد الثاني تاريخ سورية بالدم والدمار منذ ثماني سنوات، مما غيّر ويغيّر تاريخ الملايين في الوقت الذي يغيّر فيه تاريخ سورية، أي حاضرها ومستقبلها ومستقبل شعبها، إلى الأبد، وعلى افتراض أنه انتصر، مع انتصار التحالف السلطوي العالمي وهزيمة الثورات والانتفاضات المناهضة له، فإن مرحلة جديدة من الرعاعية العالمية لن تقضي على الديمقراطية التي تلفظ أنفاسها الأخيرة فقط، بل إن القوانين والضوابط والقيم والحريات وحقوق الإنسان التي جاءت مع الديمقراطية ستصبح أحلامًا بائدة وذكريات سعيدة في التاريخ الحديث.
يبدو صراع السلطة المعاصرة موجهًا ضد شعوبها بالذات، أكثر من كونه صراعًا بينيًا بينها، ومخاوف السلطة الحديثة من شعوبها أعلى، بما لا يقاس، من مخاوفها من أي غزو خارجي، ففي منطقتنا، على سبيل المثال، لا تخشى السلطة في مصر أو سورية أو إيران من أي احتلال خارجي بقدر خوفها من الشعب، بل إنها، بشكل فاقع في مأساويته وسخريته، تهدد العالم بقتل شعبها ذاته وتهجيره، في حال افتراضها لأي تآمر ضدها من أجل تغييرها أو تغيير سلوكها، وتقوم السلطة دائمًا بالتفاوض مع الخارج، في الوقت الذي تدخل فيه في معارك “كسر العظم” مع الشعب.
إن تكتل القوة الاقتصادية والعسكرية، إضافة إلى التكنولوجيا، بأيدي أصحاب السلطة الحديثة، وتحالف سلطات العالم المتقدّم والمتخلف، الفقير والغني، الرأسمالي والشيوعي، الديني والعلماني، مع بعضها ضد رغبة الشعوب بالاعتراف والحرية والتمثيل الديمقراطي الحقيقي والمشاركة السياسية الفاعلة.. هو التحدّي الأكبر لتاريخنا المعاصر، والعولمة التي ربطت شعوب العالم مع بعضها وجعلتها تتعلم من تجارب بعضها، ربطت أيضًا سلطات العالم مع بعضها أكثر من أي وقت مضى، ولذلك فإن الذي يفعله أولئك الذين يخرجون للاحتجاج والتمرد على السلطة، في أي مكان في العالم، سيأخذ مكانه في صناعة التاريخ، وفي التحدي القائم بين السلطة والشعب في كل مكان، ومهما بدا ذلك الفعل صغيرًا؛ فإن تأثيره سيجوب العالم ويدفع إرادة التغيير إلى نقاط جديدة وغير متوقعة.
ليس الأمل كبيرًا بهزيمة سلطات الأمر الواقع، ولا سيما في منطقتنا، ولكن ما يمكن المراهنة عليه هو أن ما يقود السلطات القائمة لدينا هو الوهم الدكتاتوري، أي الوهم بعودة السيادة المطلقة على شعوب خاملة، وفصل الشعوب عن بعضها عبر الأيديولوجيا والبروباغندا وخلق الأعداء، وما يحتضن الوهم الدكتاتوري لدينا، هو ما أسمّيه “الوهم الديمقراطي”، أي وهم السلطات القائمة في العالم الديمقراطي بأن حماية الدكتاتوريات العسكرية والدينية في منطقتنا أو غيرها، هي الطريق الأفضل لحماية بلادهم وشعوبهم من فوضى شعوبنا ومهاجريها وإرهابها ومشاكلها وتخلفها، ولكي تبقى بلادهم مزدهرة اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا؛ لا بد من أن تبقى بلادنا متخلفة وتحكمها الدكتاتوريات.
تلك الأوهام التي عاشت كحقائق ثابتة، خلال العقود الماضية، تم تفجيرها عام 2011، وما زالت عملية تحطيمها قائمة إلى اليوم، ويبدو أن استمرار السلطات الدكتاتورية والديمقراطية المتحالفة، في اتباع الاستراتيجيات القديمة ذاتها، ليس سوى معاندة لتيار التاريخ الذي تحاول الشعوب صناعته، مقابل التاريخ الذي تحاول السُلَط المتحالفة إدارته وتغيير مساره. وفي تلك المعركة، التي باتت معركة “كسر عظم” عالمية يرتبط فيها العالمي والمحلي بأوثق الصلات وأشدّها، فإن كلّ انتصار، صغيرًا كان أم كبيرًا، لشعب أمام السلطة، يصبح انتصارًا لباقي الشعوب ودفعًا لعزيمتها أمام حائط الصد العالي الذي ترفعه السلطات المتحالفة في وجه التاريخ.