في مسار الثورة السورية تعرّجات كثيرة، قادت إلى مجموعة من التعقيدات التي تبدو وكأنها تُغلق أفق أي مخرج أو حلّ سياسي، وتراكبت مفاعيل العامل الخارجي وثقله مع الوضع الذاتي وموقعه ودوره، وصولًا إلى تهميش أثره إلى حد بعيد.
في بدايات الثورة، تعزز الرهان على عاملين متضافرين: قوة الانتفاضة بسلميتها وشعبيتها وشموليتها، والوعود الخارجية بتدخل حاسم يُنهي النظام الحاكم خلال زمن قصير، منظور.
وبالفعل، على مدار عامي 2011 و2012 وبدايات العام 2012، وعلى وقع الحراك السلمي المتصاعد، واتساع حركة انشقاق العديد من الضباط والجنود والشخصيات ووقوفها مع الثورة؛ أخذ النظام يتخلخل، وتظهر فيه الثغرات البنيوية العاصفة التي تبشّر باقتراب انهياره، وترافق ذلك مع وعود خارجية غزيرة، خاصة من قبل الولايات المتحدة الأميركية، بالتدخل الحاسم إلى جانب الشعب السوري، ثم تداخلت مجموعة عوامل متزاحمة أوقفت انهيار النظام، وفتحت المجال لنزيف سوري طويل بكل التفاعلات والآثار والوقائع اللاحقة، وأهمها:
1 – تدخل إيران القوي لمنع سقوط النظام، عبر مجموعة من الخطوات المتلاحقة بدءًا من الإيعاز لذراعها “حزب الله” بالتدخل الكثيف في الحرب ضد ثورة الشعب السوري (القصير مثال ساطع ومنعطف مهم)، ثم دخول عدد من الميليشيات الطائفية لمساندة النظام، وتشكيل ما يعرف بـ “الدفاع الوطني” بدعم وإشراف إيران، إضافة إلى الدعم المالي واللوجستي، ما أوجد ميزان قوى جديدًا أخذ يميل تدريجيًا لصالح النظام وحلفائه.
2 – انتقال الثورة من السلمية إلى العَسكرة، وما نجم عن ذلك من تعقيدات، ومن فتح الأبواب لتدخّل مجموعة واسعة من الدول الإقليمية والخارجية بالشأن السوري، وكان إنشاء ما يعرف بـ “غرف الموم والموك” المثال الأوضح عن حجم التدخل، مثلما كان انتشار الفصائلية بشكل مرَضي، ثم ظهور التنظيمات الإرهابية، والإسلاموية المتشددة، الانعكاس الشرس لحجم التدخلات والتداخلات الخارجية بشأن مسار الثورة ومآلها.
3 – الوعود بالتدخل الخارجي سهّلت وصول الرهانات على الخارج إلى درجة ساحقة، أدّت إلى توجه مؤسسات الثورة (المجلس الوطني بالخصوص) نحو ذلك الرهان على حساب الاهتمام بالشأن الداخلي، وبمأسسة العمل الجماعي، والابتعاد عن الأرض والناس، وبدء تدويل القضية السورية وتهميش الدور الذاتي.
4 – إن سيطرة العمل العسكري بتلك الصورة الفوضوية، وبطبيعة السائد من التوجهات، واضطرار فصائل عديدة إلى الارتباط بالجهات الممولة، أنتج مجموعة من الظواهر السلبية، وفي مقدمها: الفشل في توحيد العمل العسكري وتحويله إلى حالة مهنية محددة المهام، بقيادة عسكرية مؤهلة، وسياسية. كما أدّى إلى تهميش دور المؤسسات السياسية، ورفض الاعتراف بها ممثلة للثورة، وما نجم عن ذلك من انفصام العمل العسكري عن السياسي، ومن صراعات بينية دامية بسبب الاستحواذ، أو نتيجة صراع المشاريع الإقليمية والخارجية.
5 – عانى الائتلاف، منذ قيامه، آثار هذا الوضع الصعب، فتفاقمت أزمته البنيوية ليكون المعبّر الحقيقي عن الثورة (كما قرر أصدقاء سورية ذلك)، ولم ينجح في توحيد العمل العسكري، بالرغم من الجهود والمحاولات، وعجزت المؤسسات التابعة له (الحكومة المؤقتة بشكل خاص) عن النهوض بالمهام المأمولة منها؛ فأوجد ذلك خللًا في توازن برامج العمل بين الجانب السياسي والداخلي. في حين أن الحل السياسي الذي أعلن الائتلاف موافقته على ولوجه وفق بيان جنيف 1، وما تبع ذلك من صدور قرارات أممية بدت كنوع من الدحرجة، وصولًا إلى القرار 2254، لم يثمر عن أي تقدّم بسبب رئيس يرتبط برفض النظام لأي نوع من الحل السياسي، ومساندته من قبل روسيا وبعض الدول الخارجية، وصولًا إلى التدخل العسكري الروسي الساحق وما أحدثه من خلل في ميزان القوى، ومن هزائم للفصائل المعارضة (معارك حلب كانت مفصلية وتحولية) وخلق وقائع على الأرض، وسياسيًا (لقاءات أستانة واتفاقات خفض التصعيد والمصالحات وعودة النظام إلى معظم المناطق التي كانت خارج سيطرته).
لقد أثبتت التجارب الدامية عبر السنوات المديدة أن أصحاب القرار بالشأن السوري (الدول الكبرى وعلى رأسها أميركا) يرفضون حسم الصراع عسكريًا مع النظام، لذلك لم تُقدّم الدول الكبرى السلاح النوعي المطلوب لفصائل الجيش الحر، ورفضت باستمرار فرض حظر جوي، أو مناطق آمنة، ثم أوقفت فورًا كل أنواع الدعم العسكري، وأوقفت غرف (الموم والموك)، معلنة أنها مع الحل السياسي.
في الوقت نفسه، انخرط الائتلاف في العملية السياسية منذ العام 2014، وفقًا لبيان جنيف 1، وتأكّد عدم وجود إرادة أو قرار دولي، خاصة من قبل الدول الفاعلة، لفرض ذلك الحل، وإرغام النظام على الانصياع للقرارات الدولية. على العكس من ذلك، ففي الوقت الذي اكتفت فيه أميركا بما يعرف بـ “إدارة الأزمة”، كانت روسيا، الحليف القوي للنظام، تدعم مواقفه، وتمنع اتخاذ قرارات فاعلة ضد ممارساته الإجرامية المتنوعة، باستخدام “الفيتو” مرارًا، وتدعيمه ميدانيًا عبر عملياتها الحربية الشاملة ونتائجها التي صبّت لصالح النظام، وألحقت أبلغ الخسائر بقوى الفصائل المنتمية للجيش الحر.
كان هناك أسئلة عدة تطرح نفسها دومًا: هل هناك خيارات بديلة، أو مساعدة، أو فاعلة تسهم في فرض الحل السياسي؟ وما هي البدائل في حال فشل العملية السياسية وعدم وصولها إلى نتائج ملموسة؟ وهل تبقى المعارضة على لائحة انتظار قرارات الدول الفاعلة؟ أم أن عليها أن تسعى لإيجاد مرتكزات تمكنها من التحوّل إلى قوة فاعلة؟ أو الانتقال إلى خيارات بديلة يمكن أن تخلق وقائع جديدة؟
كثيرة هي الأفكار والمهام التي تُطرح وتُناقش، وهي ترتكز في جوهرها على فعاليات وصمود شعبنا الثائر، المتمسك بحقوقه في الحرية، وفي إقامة النظام التعددي البديل لنظام الاستبداد والإجرام والفئوية، وذلك من خلال وضع البرامج الواقعية للتواصل والتفاعل معه في المناطق المحررة، ومختلف المدن والمناطق السورية التي تقع تحت سيطرة النظام، والعمل على تجديد الخطاب السياسي، بما يتلاءم مع المتغيّرات، مع الإيمان بمسؤولية الثورة عن أطياف شعبنا كافة، حتى “الكتلة الصامتة”، أو “الرمادية”، وتلك المحسوبة على النظام من الذين لم تتلوث أيديهم بدماء السوريين، والعمل على نشر خطاب المصالحة والسلم الأهلي، وخطاب التأكيد على وحدة الشعب السوري بمختلف مكوناته وتوجهاته، ووحدة البلاد وتحريرها من التواجدات الخارجية، بعيدًا من منطق الثأر والاستئصال، ووفق وضع المشروعية التاريخية بيد الشعب في انتخابات حرة لاختيار ممثليه، ودستوره العصري، وتحقيق المساواة بين الجميع على أساس المواطنة.
ومن المهام التي يمكن العمل لتجسيدها، تحقيق الشعار المرفوع بتمكين أهالي المناطق المحررة (التي ليست تحت سيطرة النظام) من إدارتها بأنفسهم، وفق برنامج تبلورت خطوطه الأساسية في عدد من لجان الائتلاف الفاعلة، خاصة “لجنة الجزيرة والفرات”، والتفكير الجاد في إجراء انتخابات برلمانية واختيار ممثلين حقيقيين للسكان في تلك المناطق، كمجلس شعب يقوم بمهام التشريع، والتركيز على تصويب العلاقات مع الأشقاء والأصدقاء باعتماد الندّية فيها، ولغة المصالح المشتركة التي تؤمن التوازن.
إن تدعيم أو تحصين قوى الثورة والمعارضة بالشعب يُوفر الشروط الصحيحة لتعديل موازين القوى الحالية، واستعادة القرار الوطني، وتمكين تلك القوى لتكون طرفًا فاعلًا في معادلة الحل السياسي، بالمستوى الذي يحقق مصالح الشعب السوري وطموحاته في إنهاء نظام الفئوية والاستبداد، وإقامة النظام المدني التعددي الديمقراطي.
تعليق واحد