تعيش المنطقة العربية حالة مخاض، بعضه كان عسيرًا، والبعض الأخر كان سهلًا، وهذا المخاض ما زلنا نعيشه منذ صبيحة الثورة التونسية نهاية عام 2010، مرورًا بالثورات المتتالية في مطلع عام 2011 في مصر وليبيا وسورية، وهي أُجهضت في مصر عبر الأخطاء المتراكمة لحركة الإخوان المسلمين، ليلتف العسكر عليها ويأتينا بشخصية السيسي.
في ليبيا أيضًا كان للإسلام السياسي دور في إجهاض نتائج الثورة على حكم المستبد معمر القذافي، وكان الإجهاض الأكبر هو في سورية، حيث شهدت في بداية الثورة إسقاط كل التابوات المرضيّة التي يعيش فيها المجتمع السوري، لكن النظام المستبد في دمشق استطاع أن يؤسلم ويسلّح الثورة السورية، ولكسر هذه الثورة، فتح المجال لكلّ القوى الاستعمارية للدخول إلى سورية، لتصبح (حميميم) هي مركز القرار في سورية، وليبقى رأس النظام الموهوم بالنصر، عبارة عن حجر شطرنج يتلاعب به أحيانًا المستعمر الإيراني وغالبًا المستعمر الروسي.
خلال الشهرين الأخيرين من هذا العام، شهد كل من العراق ولبنان ثوريتين كسرتا كل التابوات، وبخاصة التابو الديني والمذهبي، وبات الفقر والهم المعيشي أهم من كل الطوائف ومشتقاتها، وكان الاحتلال الإيراني هو العدو المشترك لكلتا الثورتين، ففي الوقت الذي أراد الحشد الشعبي أن يكون الذراع التي عبرها يريد قاسم سليماني أن يُسقط الثورة، وعلى الرغم من دمويتها ما زالت ثورة مستمرة، ومن المؤسف أن نقول ما زال للمرجعيات الدينية القرار الأول والأخير للقرارات الهامة في الشأن السياسي العراقي، وإن إحراق الشعب العراقي لقنصليات إيران في أكثر من منطقة له رمزية، حيث يشير أين هو العدو ويحاربه.
الإرهاصات المرضيّة المتراكمة للمجتمع اللبناني تفجرت بثورة مخملية، ونتيجة وجود “شبه حرية” في لبنان كان سقوط التابوات كبيرًا وهائلًا، وقد تنجر كل المنطقة إليه، فلم يعد مَن في الشارع اللبناني يخفي مطالبه وراء أصابعه، فرفعوا شعار “كلن يعني كلن”، أي محاسبة الجميع.
أول التابوات كانت المرأة التي لم تعد “حرمة”، ولا جسدًا جميلًا يُباع ويُشرى، فقد نفضت المرأة عن ذاتها لتتحول إلى ثائرة، تحس بأوجاع المجتمع، لأنها إنسانة بكل معنى الكلمة، لذا تقدمت الصفوف الثائرة والمنتفضة من أجل الحق الذي مُنعت عنه لسنوات، فكانت الفتيات اللواتي بعمر الورد يتقدمن المتظاهرين من كفر الرمان وصور، متجهات نحو النبطية وصيدا، مُشكّلات بأجسادهن سدًا بشريًا، يحمي الرجال ويُسقط الثنائي الذي حاول أن يستغل الدين والطائفة من أجل المغانم الشخصية باسم الممانعة والمقاومة، وهو شعار لم يعد يخفي فساد أولئك الذين حوّلوا الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان إلى معقل للفساد المالي والمادي.
تابو آخر سقط، وهو حرمة رجل الدين، فقد أسقط الحراك تلك الهالة لرجل الدين، فلم يعد ذلك الذي لا يُقترب منه، ولا يمكن نقده أو الثورة على فساده، فهو بالمحصلة، ولأي دين انتمى، ولأي مذهب، جزء من منظومة الفساد التي شاركت السلطة السياسية فسادها، فقد شهدت الخيم في الساحات، وصفحات التواصل الاجتماعي، النقد الشديد لرجال الدين، وباتوا يقيّمونهم من خلال مواقفهم الوطنية والإنسانية، حتى ذاك الحاكم للبنان سقطت هالته، ولم يعد هو الذي يأمر وينهي. وفي العراق لم يعد أمثال قيس الخزعلي من يتحكم بالقرار الشيعي، بل الشارع الثائر الذي ثار على تجار الدين والمذاهب، الذين تحولوا إلى بندقية للإيجار.
أهم التابوات التي سقطت في كل ثورات المنطقة هو الخوف من السلطة، فالهمّ الوطني والمعيشي أسقط جدار الخوف هذا، ودفع الناس إلى الشوارع من أجل الدفاع عن لقمة عيش أولادهم، ولقد حاولت هذه السلطة في العراق ولبنان أن تعيد إرهابها، ولكن بقي الناس يتدفقون في الشوارع ولم يعد يخيفهم الموت، فهم بدلًا من أن يموتوا من أجل سلطة وجاه هؤلاء، يفضّلون الموت من أجل لقمة عيش أولادهم.
ثار الناس في المنطقة العربية ضد الفساد الذي زكمت رائحته الأنوف، ولم يعد يُطاق، ثار الناس من أجل محاسبة الفاسدين في السلطات، فلم يعد مقبولًا أن تغتني أقلية لتعيش وتتنعم على حساب أكثرية تزداد فقرًا، لذا أراد الناس أن يحاسبوا هؤلاء الفاسدين، من دون استثناء وأينما تواجدوا ولأي سلطة انتموا، فهم معرضون للحساب، وحسابهم عند الشعب، وليس يوم القيامة أو يوم البعث.
نجح الشعب اللبناني والعراقي في أن يُسقطوا الطائفية التي أكلت من أبنائهم وثرواتهم الوطنية، فلم يعد يخيفهم الآخر، وهذا الآخر لم يعد عدوهم، فعدوهم هو تلك السلطة الطائفية، التي حولتهم إلى وقود لمحاربة الواحد للآخر، ولكن اليوم شعر الجميع بأن الطائفية كانت هي السلاح الذي حولهم إلى قتلة لأخوة لهم يجمعهم الهم الوطني والمعيشي لمحاربة الفساد والفاسدين.
نعم إن شعار “كلن يعني كلن” هو شعار يشمل الجميع، ويوم الحساب يكرم المرء أو يُهان.