دمشق تبرم اتفاقات مع الحلفاء في ظلّ ارتهان سياسي وعجز مالي
يعمل نظام الولي الفقيه في طهران، منذ نحو ثماني سنوات، ما في وسعه من أجل ربط الاقتصاد السوري المنهك، باقتصاده الذي ينهار يومًا بعد يوم من جراء العقوبات الأميركية والأوروبية المتزايدة، والحصول على أكبر نصيب من الكعكة السورية استباقًا لمرحلة ما بعد الرئيس السوري بشار الأسد، وذلك من خلال تركيزه في الآونة الأخيرة على قطاع الكهرباء المنكوب. الأمر الذي تنبهت له روسيا المسيطرة على السدود المائية الكبرى، بحكم الخبرة والتعاقدات القديمة مع الاتحاد السوفيتي، قبل دخول إيران على خط إنتاج الكهرباء في سورية، وتنوع عقودها بين تطوير المنظومة وإنشاء محطات توليد وتحويل، ليصبح قطاع الكهرباء في البلاد أحد أبرز القطاعات الحيوية التي يتنافس عليها الحليفان الرئيسان لنظام البراميل.
طهران، استكمالًا لسعي فرض سيطرتها الكاملة على قطاع الكهرباء، وقعت مع الجانب السوري في الثاني من الشهر الماضي “مذكرة تفاهم”، تهيمن بموجبها بشكل مطلق على جميع مفاصل إنتاج الكهرباء الفنية والتشغيلية والصناعية في سورية. بحسب ما ذكرت وكالة أنباء النظام (سانا).
“مذكرة التفاهم” التي وقعها وزير كهرباء النظام محمد زهير خربوطلي من جهة، ووزير الطاقة رضا أردكانيان من جهة الجانب الإيراني، تضمنت العمل على إعادة بناء منظومة الكهرباء في سورية، وتوطين صناعة التجهيزات الكهربائية فيها، كما تشمل إنشاء محطات توليد الكهرباء وشبكات النقل والتوزيع، والعمل على إعادة بناء وتقليص التلف في شبكة توزيع الكهرباء في مجالات الهندسة والتشغيل وخدمات الزبائن.
وعلى الرغم من أنّ النظامين السوري والإيراني كانا قد وقّعا سابقًا العديد من الاتّفاقات ومذكرات التفاهم بين البلدين في ما يخص قطاع الكهرباء، التي يقول إعلام النظام إنّها تعرضت لأضرار بنسبة 50 في المئة، فإنّ الجديد في المذكرة الجديدة هو اتساعها وشمولها، خلافًا للاتفاقات السابقة التي كانت تقتصر على منطقة محددة أو جانب ما من عمليات إنتاج الكهرباء.
وكانت ساعات تقنين الكهرباء قد وصلت في السنوات السابقة إلى ما يزيد عن 16 ساعة يوميًا، في العاصمة والمدن الرئيسية، فيما غابت الكهرباء بشكل شبه كامل عن الأرياف. وبعد تحسنها قبل عدّة شهور وقلة انقطاعها، أخذت تصريحات المسؤولين السوريين الأخيرة، منذ بدء فصل الشتاء، تمهّد لعودة نظام التقنين، منبهين إلى أنّ الأزمة السورية لم تنته بعد.
حلقة جديدة في مسار تنازلات الأسد الخارجية
مفاعيل “مذكرة التفاهم” الجديدة التي يمتد العمل بها إلى ثلاث سنوات لا تقتصر، بحسب خبراء ومراقبين، على حدود الاتّفاق المبرم مع القطاع العام الإيراني، وإنّما امتداده ليشمل منح حكومة طهران بقطاعيها العام والخاص حق تصنيع التجهيزات الكهربائية في سورية، بما يتضمن إنتاج المعدات الذكية والمحولات والكابلات وأجهزة كهربائية أخرى.
وزير الطاقة الإيراني أوضح، عقب توقيع المذكرة، وفقًا لوسائل إعلام محلية في دمشق، أنّ تأهيل البنية التحتية للكهرباء السورية يأتي في إطار التجهيز لعملية الربط الكهربائي بين البلدان الثلاثة، سورية والعراق وإيران، علمًا أنّ طهران أبرمت مع الجانب العراقي اتفاقًا مماثلًا قبل يوم واحد من الاتّفاق مع دمشق.
من جهته، اعتبر الوزير خربوطلي، حينها، أنّ دور طهران “مهمّ” في إعادة بناء شبكة الكهرباء السورية، كاشفًا عن توجهات النظام لإعطاء البلدان الصديقة مثل إيران وروسيا والصين دورًا رئيسًا في إعادة إعمار البلاد مع قرب دخول الحرب السورية عامها التاسع.
منح قطاع الكهرباء لطهران يأتي في ظلّ أزمة مالية خانقة يعيشها النظام، عبّرت عنها الإيرادات المتراجعة في الموازنة السورية للعام القادم، وزيادة الاستدانة فيها، وتدهور غير مسبوق تاريخيًا لليرة السورية مقابل العملات الأجنبية.
تقارير صحفية نشرتها مواقع إعلامية معارضة لنظام الأسد، اطلعت عليها شبكة (جيرون) الإعلامية، لفتت إلى أنّ تزايد ساعات قطع التيار الكهربائي في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وعودة التقنين بما يضر بمصلحة المواطنين، تزامن مع بدء مسؤولي النظام معزوفة دعم الكهرباء بأرقام فلكية تبلغ 800 مليار ليرة (الدولار 900 ليرة تقريبًا)، علمًا أنّ الموازنات السنوية السورية لا تشتمل في بنودها على هذه الأرقام. وتبرر حكومة النظام ذلك بأنّ الدعم يغيب ضمن التشابكات المالية للوزارات، ولم تتجاوز الموازنة الاستثمارية لقطاع الكهرباء للعام 2020 مبلغ 53 مليار ليرة.
محللون سياسيون مختصون بالشأن السوري رأوا أنّ استيلاء طهران على قطاع الكهرباء السوري ليس إلّا خطوة جديدة يُقدم عليها نظام الأسد ضمن مسار تنازلاته الخارجية، في منحى موازٍ ورديف لسياسة الخصخصة الداخلية التي يتبعها عبر بيع وتأجير القطاع العام، وهي نتيجة حتمية لواقع الارتهان السياسي والعجز المالي لنظام (سورية المفيدة) التي اخترعها نظام الأسد.
موسكو.. وضع اليد على محطات الطاقة المتجددة
روسيا الساعية هي الأخرى إلى إحكام قبضتها على قطاعات الإنتاج السورية، تعمل على إيجاد اتّفاقيات مع نظام الأسد للسيطرة على قطاع الكهرباء. حيث أكّد وزير الكهرباء، في منتصف حزيران/ يونيو الماضي، الأنباء عن نية حكومته استجرار الكهرباء من روسيا، موضحًا أنّ الاستجرار لن يكون مباشرًا لبعد المسافة بين البلدين، وإنّما سيتم وفق آلية توليد كهرباء على الأراضي السورية، يقوم بها الجانب الروسي.
خربوطلي بيّن حينها، في تصريحات نسبتها إليه وكالة (نوفوستي) الروسية، أنّه تم سابقًا توقيع العديد من مذكرات التفاهم مع الجانب الروسي بخصوص الكهرباء. وشملت مذكرات التفاهم تأهيل وإصلاح الأقسام 2 و3 و4 في محطة حلب الحرارية، مضيفًا أنّ الجانبين بحثا إمكانية شراء الطاقة الكهربائية في حال تم تنفيذ مشاريع تتعلق بمحطات التوليد الكهربائية.
وأوضح الوزير أنّ الجانب الروسي الممثل بشركة (تكنوبروم) الروسية، أرسل (…) دعوة لتفعيل تلك المذكرات الموقعة بين الطرفين، كاشفًا أنّ العقبات الرئيسية حتى الآن تتمثل في التمويل، قائلًا: “إن شاء الله، نتغلب على صعوبات التمويل قريبًا”.
وقالت مصادر صحفية في دمشق إنّ الجهات المعنية تجري دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع، المتضمنة كلفة إنشاء المحطات، وطرق تزويدها بالفيول أو الغاز، والأسعار التي سيتم احتسابها من قبل الجانب الروسي، وسعر استجرار الكهرباء على الجانب السوري.
مراقبون مختصون قالوا إنّ دخول روسيا إلى هذا القطاع قد يحمل أنباء غير سارة لطهران التي اعتبرت لسنوات أنّها ستتفرد بالكهرباء السورية. وعملت طهران، خلال الفترة الماضية، على تزويد سورية بالكثير من محولات الطاقة الإيرانية الصنع، وقامت بتوقيع الكثير من مذكرات التفاهم مع النظام بهذا الخصوص.
وتتوزع عقود حكومة نظام الأسد بين موسكو وطهران، في وقت تسيطر فيه الأولى على السدود، بينما دخلت طهران على خط التعاقدات الكهربائية بين التحويل والتوليد وعملية التطوير. وفي وقت توسعت فيه الاستثمارات الإيرانية في قطاع الكهرباء، اتجهت موسكو إلى محطات الطاقة المتجددة (الكهرومائية) ووضعت يدها على سدين في المناطق الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية” (قسد) شمال شرقي سورية.
وتريد موسكو مدّ سيطرتها إلى سدَّي الفرات وتشرين اللذين يغطيان 60% من حاجة سورية من الكهرباء، وآلاف الهكتارات الزراعية بمياه الري وغالبية مناطق حلب والحسكة ودير الزور بمياه الشرب. إذ يتوقع أن تشهد الرقة تعاظمًا للنفوذ الروسي، مطلع العام 2020، بسيطرتها على سد الفرات في مدينة الطبقة، ونشر مربع أمني لقوات النظام في الطبقة ثم في مدينة الرقة، وفق مصادر صحفية عربية.
وستزود موسكو مناطق عملية “نبع السلام” التركية، من رأس العين حتى تل أبيض، بالكهرباء من سد الفرات، بحسب التفاهم التركي-الروسي، لإنشاء المنطقة الآمنة وإبعاد (قسد) عن المرافق الخدمية.
وكان وزير كهرباء النظام قد أكّد، في آذار/ مارس الماضي، أنّ القرارات المتعلقة بقطاع الكهرباء بيد القصر الجمهوري ورئاسة الحكومة ووزارة الكهرباء، وأن لا نية لإدراج الكهرباء في “البطاقة الذكية”، ولا نية للخصخصة التي تفترض أن يولد القطاع الخاص الكهرباء ويبيعها بشكل مباشر للمستهلك.
وقدرت مصادر حكومية سعر إنتاج كيلو الكهرباء حاليًا بـ 80 ليرة سورية، فيما كانت تكلفة توليد كيلو الكهرباء، في عام 2011، تبلغ 5 ليرات سورية. وتتجاهل المصادر الحكومية انهيار قيمة الليرة السورية خلال السنوات الماضية، عندما تورد هذه الأرقام. إذ كانت قيمة الليرة بحدود 47 ليرة للدولار مطلع العام 2011، ووصلت حاليًا إلى حوالي 900 ليرة للدولار.
وقدرت خسائر قطاع الكهرباء في البلاد منذ عام 2011، بما لا يقل عن 4 مليارات دولار، بحسب ما ذكرته وزارة الكهرباء في النظام خلال هذا العام الجاري، مشيرةً إلى أنّ 70% من محطات التحويل وخطوط نقل الفيول، متوقفة. ويبلغ الإنتاج الحالي من الكهرباء بحدود 4000 ميغا واط، وهو أقل من نصف الإنتاج لعام 2011 البالغ 9000 ميغا واط. وبحسب التقديرات الرسمية فإنّ العودة إلى مستويات 2011 تحتاج إلى خمس سنوات على أقل تقدير.
يُنذر بدء التقنين بواقع ثلاث ساعات قطع، مقابل ثلاث ساعات تزويد، في الوقت الحالي، بتكرار مأساة الشتاء الماضي، عندما وصلت ساعات التقنين في دمشق وريفها إلى أكثر من 18 ساعة، فضلًا عن الانقطاعات العشوائية وغير المنتظمة في التيار، بسبب نقص مادة الفيول المشغلة للمحطات الكهربائية جراء عقوبات أميركية وأوروبية مشدّدة على نظام الأسد.