هموم ثقافية

فيلم (الجوكر) وسينما التمرّد والثورة

أحدث فيلم (الجوكر) الذي عُرض أخيرًا ضجةً واسعةً في الأوساط الفنية، وتأثيرًا كبيرًا في أوساط الشباب المتمرد حول العالم، حيث درج ارتداء قناع الجوكر، واعتُبر رمزًا للاحتجاج والثورة، وسارعت العديد من الأنظمة إلى اتهام الشباب بالقيام باحتجاجات وشغب تقليدًا للفيلم، وإنكار وجود أزمات داخلية فعلية، وشهدنا مثل هذا الاتهام من “حزب الله” للحراك اللبناني.

حصد فيلم (الجوكر) إيرادات ضخمة، وحقق نجاحًا جماهيريًا باهرًا، ومع ذلك لا يمكن إدراجه ضمن أفلام مدرسة هوليوود المعروفة بالإنتاج الضخم والإخراج الصاخب، ويمتاز الجوكر بالنص البسيط والسيناريو السهل، ومن المهم دراسة التأثير الكبير للفيلم في الجمهور، وهل يعود ذلك للأبعاد الفلسفية العميقة التي تحملها حواراته؟ أم بسبب طرحه تساؤلات وجودية عن معنى وقيمة الحياة، في ظل حالة الفراغ الرهيب التي يعيشها الشباب، وانتشار العبثية والعدمية والانتحار في صفوهم، مع غياب القيم الإنسانية وسيطرة الرأسمالية المتوحشة.

يتناول الفيلم حياة (آرثر) الرجل البائس الذي يعيش مع أمه المريضة في بيت متواضع، ويعاني صعوبات جمة في توفير مستلزمات حياته ونفقات العلاج لوالدته، ويعمل من أجل ذلك كمهرج ومروج إعلانات، ويعاني آرثر مرض التوحد العقلي الذي يجعله ينفجر في نوبات ضحك مفاجئة هستيرية ممزوجة بالحزن والبكاء، وتسير حبكة الفيلم من خلال أحداث ومواقف يتعرض لها المهرّج آرثر.

تبدو تناقضات مثيرة في شخصية آرثر من خلال حديثه مع معالجته النفسية، حيث يتساءل عن حالته: هل ما أحس به هو شعوري وحدي؟ أم أن الجنون يزداد كذلك في الخارج؟ وترصد المعالجة في دفتر يومياته رسومات فوضوية وكتابات عشوائية، لكن ما يلفت انتباهها عبارة خطيرة: “يا ليت موتي يكون منطقيًا أكثر من حياتي”، وربما تكون كافية لعرض مضمون الفيلم، من خلال أربعة مواقف أساسية.

الأول فصل آرثر من عمله، بعد سقوط مسدسه خلال تقديمه عرض تهريج أمام الأطفال في المشفى، ودفعه ذلك إلى قتل زميله الذي قدم له المسدس ثم وشى به لدى ربّ العمل.

الثاني حضوره بالصدفة محاولة اعتداء ثلاثة رجال ليلًا على فتاة في عربة أحد القطارات الفارغة، وبعد أن ضربوه بقسوة، بعد سيطرة نوبة من الضحك الهستيري المفاجئ عليه، قام بإطلاق النار عليهم وقتلهم ثم هرب من المكان، وأثارت الحادثة فوضى عارمة في مدينة غوثام الكئيبة، التي بدت مدينة أشباح تغطيها الحرائق وأعمدة الدخان الأسود، تجوب سيارات الشرطة والإسعاف شوارعها المليئة بالقمامة والجرذان الضخمة، وانتشرت فيها حمى ارتداء الأقنعة وإخفاء الناس وجوههم بالجوكر، ودفعت عملية القطار إلى ظهور حركة عنيفة تحت عنوان “اقتلوا الأغنياء وانتقموا منهم”.

في موقف ثالث، يخنق آرثر والدته بالرغم من أنه كان مولعًا بحبّها، وعمل جاهدًا لرعايتها وتوفير الدواء لها، لكنه قتلها بعد اكتشافه تلاعبها به وخداعها له والادعاء أنه ابن الرجل الثري توماس وين، بينما هو مجرد طفل قامت بتبنيه وقست عليه في طفولته، وعلّق على فعلته تلك بالقول: “كنت أظن أن حياتي مأسوية لكني أدرك الآن أنها مسرحية هزيلة”، وبقي يتذكر وصية أمه له بأن يرسم الابتسامة على وجهه، وأن يبقى مبتهجًا على الدوام.

يجري الموقف الرابع خلال مشاركة آرثر في برنامج تلفزيوني ساخر، حيث وضع قناعًا على وجهه، وطلب تقديمه باسم الجوكر، واعترف آرثر ببرودة أعصاب أمام الجمهور بأنه من قتل الرجال الثلاثة، وأردف في تبرير اعترافه أنه لم يعد لديه بعد الآن شيء يخسره أو يمكن أن يؤذيه، وقد قتلهم لأنهم كانوا فظيعين، وفسر أن الاهتمام بمقتلهم كونهم يعملون لدى الثري توماس وين، وتحدث بأسى بالغ: “لو كنت قتيلًا على قارعة الطريق؛ ما كان أحد منكم ليهتم بي، وكنتم مشيتم فوقي متجاهلين مقتلي، وإني أمرّ من جانبكم كل يوم، لكنكم لا تلاحظون ذلك”، ثم أطلق آرثر النار على مقدم البرنامج موري، وقتله بدم بارد.

استغل آرثر ظهوره في البرنامج، ليحاكم النظام برمته في مرافعة علنية أمام الجمهور، وهاجم تصنيف النظام الناس إلى ناجحين وفاشلين، واتهم من يشكلون النظام أنهم من يحددون هل الشيء صواب أو خطأ، وهم الذين يقررون متى يسمحون للناس بالضحك.

لم يرتكب آرثر القتل بدوافع إجرامية، لكن ما فعله حمل رسائل ومؤشرات خطيرة، وربما يعتبر قتل زميله بسبب وشايته عملًا انتقاميًا فرديًا، وقتل الأشخاص الثلاثة في إطار الدفاع عن النفس، لكن قتله لوالدته هو الأخطر، كونه يشير إلى استعداده للقيام بأي فعل بلا أي حرج، وتجاوز المشاعر والقيم والأعراف، وتشكيل قطيعة تامة مع الماضي الزائف، ومحاكمته بشكل قاس دون هوادة، أما قتل مقدم البرنامج موري فيمثل حكمًا بالإعدام ضد نظام بأكمله.

يحضّ فيلم الجوكر على التمرّد العنيف ورفض الإهانة أو الاستكانة، مهما تكن النتائج، لأن بعض الناس تملؤهم المتعة بتحطيم أحلام الآخرين. ولا يتوقف هذا العالم الرائع، وهذه هي الحياة، ولا يمكن إنكارها على الرغم من أن آرثر يظن أنها لا تستحق المحاولة.

يعيد فيلم الجوكر الأمل بعودة قوية لسينما بدل الفانتازيا وأفلام الخيال والعنف الهوليودي التي تكلف موازنات باهظة أرهقت شركات الإنتاج، وجعلت كثيرًا منها يتوقف عن العمل، ومن المؤمل أن نشهد طرح مواضيع إنسانية تعالج قضايا المجتمعات المعاصرة واليأس والإحباط الشديد الذي تعانيه أجيال الشباب.

هل أطلقت تسمية (الجوكر) على الفيلم بشكل مقصود، كون ورقة الجوكر رابحة على الدوام في اللعب؟ وعلى الرغم من أن الفيلم لا يحمل مضامين سياسية مباشرة، هل يمكن القول إنه يريد توجيه رسائل مباشرة بأن الشعوب يمكن أن تفعل كل شيء للقطع مع ماضيها التعيس في مواجهة الأنظمة المستبدة المتوحشة؟ وهل يكفي هذا لتفسير عشق الشباب المتمرد قناع الجوكر؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق