مقالات الرأي

العمل الأهم في مرحلة ما بعد قانون قيصر

وأخيرًا، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب على قانون قيصر/ سيزر، بعد سلسلة من عمليات الأخذ والرد استغرقت فترة طويلة، بسبب عرقلة الرئيس السابق باراك أوباما إجراءات مناقشة القانون بهدف إقراره؛ وبعد جهود مضنية بذلها الناشطون السوريون الشباب، خاصة ضمن المجلس السوري الأميركي، والجالية السورية في الولايات المتحدة الأميركية؛ وبفضل مساعدة بعض الأميركان من أصدقاء الشعب السوري.

بموجب هذا القانون؛ ستكون هناك عقوبات بحق من اقترف جرائم ضد المدنيين والإنسانية من جماعة النظام، وعقوبات بحق الأفراد والكيانات والشركات ممن مدّوا النظام بالمساعدات، أو زودوه بأدوات أساءت إلى المدنيين. كما أن هذا القانون يعطي الصلاحيات للرئيس الأميركي باتخاذ إجراءات عسكرية وغير عسكرية من أجل حماية المدنيين السوريين. كما يعطي الصلاحيات لتخفيف العقوبات، أو رفعها في حال التأكد من توقف النظام عن تهديد المدنيين. وهذا معناه أن القانون الجديد سيكون كالسيف المسلط على رقبة نظام بشار الأسد ورعاته الإيرانيين خاصة؛ إذ يمكن استخدام قانون سيزر وقت اللزوم من أجل إرغام النظام على التزام المسارات المطلوبة. كما هدد القانون الشركات الروسية والغربية الراغبة في الاستفادة من السوق السورية بالعقوبات، فيما إذا سعت للتخفيف عن النظام عبر مشاريع استثمارية تفيدها أولًا، ولكنها تريح النظام أيضًا.

من جهة أخرى، تأتي أهمية تمرير القانون كملحق مع الميزانية، ليوجه رسالة إلى العديد من الدول العربية التي كانت تستعد للانفتاح على النظام، وتعمل على إعادته إلى الجامعة العربية. بل إن بعضهم كان يفكر، أو يدعو، إلى المساهمة في مشاريع إعادة الإعمار المزعومة؛ بحجة أن ذلك سيوفر الفرصة لمساعدة النظام على التحرر من القيود والضغوط الإيرانية. ولكن الأمور الآن قد تغيرت، أو ستتغير، إلى حد كبير. وستقتصر العلاقات العربية مع النظام، على الأغلب، على الجانب الأمني غير المعلن. ولن تكون هناك دعوات مفتوحة، لا تلتزم بروادع أخلاقية إنسانية على الأقل؛ دعوات تطالب بالانفتاح على نظامٍ تسبّب في قتل نحو مليون مواطن سوري، وتشريد أكثر من نصف السوريين؛ هذا فضلًا عن تدمير البلد، وتبديد ثرواته، وتصفير اقتصاده.

إن تسمية القانون بالقيصر له دلالات رمزية كبرى، تسلط الأضواء على عشرات الآلاف من الضحايا الذين قتلهم النظام بحقد يستعصي على الوصف، وبأبشع أنواع وأدوات التعذيب. وهذا أمرٌ كان من المفروض أن يكون وحده كافيًا لتحريك مشاعر وضمائر العرب والمسلمين، فضلًا عن كل أولئك الذين طالبوا، وما زالوا يطالبون، بأهمية، وبضرورة، الانفتاح على سلطة الاستبداد والفساد والإفساد التي أنهكت السوريين على مدى عقود، وبلغت ذروة الإجرام مع انطلاقة الثورة السورية في ربيع 2011، وصولًا إلى يومنا الراهن.

وعلى الرغم من كل هذه المدة الطويلة، وكل أنواع الأسلحة التي استُخدمت ضد الشعب السوري، بما في ذلك براميل البارود، براميل الحقد الأسود، التي ظل النظام يستخدمها على مدى سنوات أمام مرأى ومسمع العالم أجمع؛ ومن اعتماد النظام على كل الميليشيات المذهبية والتكفيرية الإرهابية، “والعلمانية” القوموية، ومن الاستنجاد بروسيا وإيران، على الرغم من كل ذلك لم يتنازل الشعب السوري ولم يتراجع؛ وتمكّن شبابنا من استخلاص العبر، بعد أن تيقّنوا من ديماغوجية الشعارات المتطرفة قوميًا ودينيًا، وتبيّن لهم أن المشاريع المتطرفة قد أسهمت في إجهاض الثورة السورية، وحرفها عن خطها الوطني التعددي الديمقراطي.

لقد تمكّن شبابنا بصبرهم ومهنيتهم، وعملهم الجماعي المثابر؛ من إقناع المشرعين الأميركان بأهمية سن هذا القانون. وحققوا إنجازًا تاريخيًا حينما وافق مجلس النواب على مشروع القانون، ثم مجلس الشيوخ والرئيس. وكل ذلك أسهم في تجديد الأمل لدى السوريين المناهضين لنظام بشار الأسد. وكان هذا الحدث كالصفعة على وجوه أولئك الشامتين الذين كانوا يتبجحون علانية بأنهم قد راهنوا على الحصان الرابح، وكانوا يمنّون النفس بالامتيازات والمكافآت.

معركة السوريين مع هذا النظام لم ولن تنتهي مع إخراج الفصائل المسلحة من الميدان، وذلك لأسباب كثيرة، بعضها بات معروفًا، وبعضها الآخر ما زال ينتظر التوضيح. وإنما ستنتقل هذه المعركة إلى مستوى آخر، أو ستكون بشكل آخر. هناك معارك حقوقية، وأخرى دبلوماسية وإعلامية وبحثية وفنية، تلتقي جميعها على نقطة واحدة مشتركة أساسية ألا وهي تعرية نظام بشار، وكشف حقيقته في جميع المجالات، وعلى سائر المستويات أمام الرأي العام العربي والعالمي.

فهذا النظام الذي تاجر بالقضايا الكبرى، خاصة القضية الفلسطينية، والوحدة العربية، ومكافحة الإرهاب؛ وبعد أن تحول إلى تابع ذليل للنظام الإيراني، لم يعد يمتلك من الأوراق ما في مقدوره استخدامها للتغطية على جرائمه ودوره، خاصة إذا تمكّن الشباب السوري الذين امتلكوا خبرة هائلة بفعل تجربة السنوات الأصعب، واستطاعوا متابعة الأحداث والتطورات بتفاصيلها الدقيقة، وتمكنوا مع الوقت من التمييز بين الغثّ والسمين، والتمييز بين المواقف والشخصيات، وتعلموا اللغات، وأتقنوا أسرار التكنولوجيا الحديثة، واطّلعوا على خفايا عمليات صنع القرارات، خاصة المفصلية منها؛ إن شبابنا بعد أن تمكنوا من كل ذلك، سيستمرون في عملهم، وسيفتحون ملفات جديدة تكشف النقاب عن كل أولئك الذين دعموا هذا النظام، وقدموا له المساعدات في مختلف المراحل، بالرغم من ادعاءاتهم ومزاعمهم العكسية. كما سيتابع شبابنا سجلات المنتفعين من النظام، وجهود أولئك الذين أدوا أدوارًا مزدوجة، كل ذلك لا للانتقام، وإنما لكشفهم وفضحهم، بغية قطع الطريق أمام تكرار ما كان في المستقبل.

نظام بشار هو في ورطة كبيرة. هذا النظام الذي كان يرتعد هلعًا قبل الثورة من اعتصام سلمي، لا يتجاوز عدد المشاركين فيه العشرات، معظمهم من المتقاعدين. وكان يجن جنونه من تصريح سياسي نقدي هنا أو هناك، غالبًا ما كان يبقى ضمن دائرة النخبة والمهتمين؛ هذا النظام يواجه اليوم ملايين السوريين الرافضين حكمه، وهم يمتلكون أدوات النشر والتواصل والحصول على المعلومات، وذلك بفعل التطور المتلاحق في ميادين شبكات التواصل الاجتماعي والاتصالات بكل أنواعها.

ما نحتاج إليه اليوم، هو تنظيم الطاقات، وتوزيع المهام، وإيجاد الأطر المناسبة لتبادل الأفكار، والتوافق على الخطط المستقبلية الآنية والمتوسطة والبعيدة المدى.

السوريون يكتشفون بعضهم، إذا صح التعبير، بعد عقود من التجهيل القصدي الذي مارسه النظام ضدهم. فقد باعد بينهم، ومنعهم بشتى الأساليب من التواصل، واستخدمهم في مواجهة بعضهم بعضًا حتى تلتقي الخيوط جميعها لديه، ويكون هو الموجه والمتحكّم باستمرار.

كل ذلك من أجل ضمان استمرارية البقاء في السلطة، سلطة لم تكتسب الشرعية قط، ولن تكتسبها مستقبلًا بعد كل ما فعلته، وتفعله، بالسوريين وبلادهم التي باتت ساحة مفتوحة أمام جيوش العالم، وأجهزة استخبارات الدول، وشذاذ الآفاق من جميع الأصقاع.

ما نحتاج إليه الآن بعد توقيع الرئيس الأميركي على قانون سيزر، هو تسويقه، والبناء عليه، لتحقيق اختراقات في دول أخرى خاصة في أوروبا، ويكون ذلك عبر تنظيم اللقاءات والمنتديات حوله ضمن الجامعات ومراكز البحث، بغية شرح مسوغاته ودلالاته وأبعاده، ونتائجه المتوقعة راهنًا ومستقبلًا. فمن شأن جهود كهذه أن تساهم في تفعيل القانون، وإبقائه تحت الأضواء، والحفاظ على حيويته، والحد قدر الإمكان من ضغوط المصالح لدى صانع القرار الأميركي في تعامله مع الملف السوري، وذلك بعد حشد الدعم والتأييد الإعلامي والبحثي والشعبي، لصالح الالتزام بهذا القانون، ومتابعة تنفيذه.

وما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، هو تزامن مصادقة الرئيس الأميركي على هذا القانون 20-12-2019، والإحاطة الأخيرة التي قدمها المبعوث الدولي الخاص بسورية غير بيدرسون الذي أكد ما أكده السوريون مرارًا وتكرارًا، ومفاد التأكيد هو أن الوضع السوري لن يعالج عبر اللجنة الدستورية التي ما زال النظام يعرقل انعقادها بكل الأساليب، وإنما لا بد من حل سياسي، يكون مقدمة للتوافق على شكل الدولة والنظام، وبعد التوافق على كل الخطوات الأخرى الضرورية، وفي مقدمتها العدالة الانتقالية، وتسوية ملف المعتقلين.

لدينا أوراق قوية لم نتمكن -مع الأسف- من استخدامها وتفعيلها كما ينبغي، وذلك نتيجة المناكفات البينية، سواء الحزبية منها أم الشللية، حتى الشخصية، وكل ذلك لا يمكن فصله بطبيعة الحال عن الجهود الإقليمية والدولية التي كانت بُذلت لتمزيق صفوف المناهضين للنظام، بمختلف الأساليب والوسائل، ومن قبل جهات مختلفة، وقد استفاد منها النظام ورعاته بهذه الدرجة أو تلك.

وما نتمناه هو أن نكون قد استفدنا من الأخطاء التي كانت، وأن نستعد لمرحلة جديدة بأساليب نوعية متميزة من التنظيم والخطاب والتواصل مع المفاصل التي تبني الرأي العام، ومع مراكز صناعة القرارات على المستويين الإقليمي والدولي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق