تم قتل المدعو قاسم سليماني من قبل المدعو دونالد ترامب، أو بأوامر مباشرة من الأخير، وهو في فترة استراحة بين شوطين من لعبته المفضلة الغولف، التي كلفت مبارياته في ملاعبها الخزينة الأميركية مبلغًا يتجاوز 115 مليون دولار. يشتمل هذا المبلغ المتواضع على نفقات السفر والإقامة والمباريات في منتجعات مخصصة لرياضة النخب هذه، وبالمصادفة، كان أغلبها ملكًا لشركات السيد الرئيس.
وعلى هامش الإنفاق الحكومي على ملذّات السيد الرئيس، وقد نشرته كل صحف القارة الأميركية، هناك خلاف حاد بين عاصمة اليانكي وعاصمة الملالي. خلاف أداره بسياسة التفافية البيت الأبيض توازيًا مع تراخي باراك أوباما الذي كان يجد في الإيرانيين “أعداء عقلانيين”، على خلاف الأصدقاء العرب من الخليج تحديدًا الذين وصَفهم لأقرب مستشاريه بـ “الأصدقاء غير العقلانيين”. وإن كان رأي أوباما قابلًا لنقاش فلسفي ليس هنا مكانه، فإنه ساهم في إزهاق مصالح الولايات المتحدة أولًا، والغرب ثانيًا، وأصدقائه العرب من الحكام -حتى من الشعوب التي لم يكنّ لها أي مودة- أمام محراب الإعجاب المتهافت بطهران وعجرفتها الإقليمية. ولم يكن مستغربًا أن أحد مستشاريه حينذاك كان يفخر بإعجابه الشديد بحكمة ونجاعة السياسة الإيرانية، حتى إنه وضع صورة لزعيم ديني وعسكري لبناني يُنفّذ سياسة طهران في صدر مكتبه في البيت الأبيض.
اليوم، قتل الأميركيون قاسم سليماني، وهو -لمن نسى أو يحاول أن ينسى- الرجل الثاني بعد المرشد الأعلى، والمخطط الأمني والعسكري الفعلي لكل حروب المنطقة، من صنعاء إلى حلب مرورًا بإدارته للعصابات الطائفية “الجهادية” في العراق، والتي تتبجّح علنًا باستمرار الجهاد حتى ظهور المهدي المنتظر، دون أن يُلصق بها نعت الجهاد لأنه حصرًا، لدى وسائل الإعلام الغربية، يُطلق على طائفة دون سواها. كما أنه مسؤول آلة القمع الداخلية، وعلى هامش هذا وذاك، فهو على رأس إمبراطورية فساد بناها الحرس الثوري، مستفيدًا من العقوبات المفروضة على إيران منذ سنوات، عبر النشاط الحصري في الأسواق السوداء التي مأسسها.
أجمع عدد كبير من السوريين على تقاسم الفرح بمناسبة هذا العقاب الدامي لمن أسال دماء الآلاف منهم، وكذا بعض العراقيين وبعض اللبنانيين وبعض اليمنيين. ولكن إن توقفنا قليلًا عند “الفرحة” السورية، فإننا نتلمّس أن منبعها عاطفة إنسانية ارتبطت بالمعاناة وبالدمار وبالدماء وبالتهجير، وهي مشروعة، بالرغم من كل الانتقادات الطهرانية التي يحلو للبعض التميّز بإطلاق أحكامها. بالمقابل، لا يمكن لهذه الفرحة إن جازت في المطلق أن تُعمي الكثيرين، خصوصًا ممن يدّعي وصلًا بالسياسة وبالتحليل السياسي، عن محدودية أثر هذا العمل بخصوص معاناته الذاتية وحتى الإقليمية. فمن جهة، على الرغم من هول الضربة التي تلقتها السياسة الإيرانية بمقتل أحد مهندسيها الأشاوس، فإنها ستستفيد إلى أقصى حد في حشد الدعم، أو على الأقل التفهم، من قبل حجم لا بأس به من الرأي العام العالمي الذي لديه كره مبدئي لكل ما تقوم به الولايات المتحدة منذ حرب فيتنام. كما أن محدودية العملية، ككل عمليات ترامب، تكمن في عدم تصوّر ما يلي. وعلى الرغم من أن محللين عربًا سردوا سيناريوهات مفصلة عن خبايا القرارات الأميركية، وكأنهم كانوا في بيت الخلاء المجاور للمكتب البيضوي، فإن التصور لم يجهز لليوم الذي يلي الضربة، عدا بالطبع الحشد الإعلامي والعسكري.
من جهة أخرى، علمتنا تجارب مواجهات سابقة أن تخطي خطوط الصراع اللفظي والانتقال إلى المواجهة المباشرة يمكن أن يحمل معه بوادر حلول تفاوضية، والتجربة مع كوريا الشمالية قريبة جدا. ولا شيء يمنع، مباشرة أو من خلال الوساطات، أن ينطلق حوار فعلي بين واشنطن وطهران سيكون حتمًا على حساب العرب من أصدقاء واشنطن، والذين يتم استنفاد ثرواتهم من قبل العم سام بحجة حمايتهم من التغول الفارسي.
ما يهمنا في كل هذه التقلبات، بما أن غدًا لناظره لقريب، هو أن تكون فرحتنا كسوريين موزونة بحدود الحدث، ولا تمتد إلى إعجاب مقيت بترامب، وكأنه المسيح المخلص، والبدء بإجراء المقارنات الهزيلة بأوباما الذي “خذلنا”. فالرهان السطحي والعفوي على ترامب والاحتفاء به، ليس فقط من قبل عامة الناس، وهذا طبيعي، بل من قيادات الرأي العام الذين تعتبر كتاباتهم مؤثرة، غير ذي فائدة عمليًا، كما أنه ينقلنا من رهان على حصان خاسر (أحصنة؟) إلى حصان يبحث عن ربح لن يغنينا في شيء.
سيترتب على ما سبق من تحليل سريع إطلاق نعوت وتوصيفات، كاد الصمت الذي ملت إليه بدايةً أن يعفيني منها، وسيتم حتمًا الاجتزاء والاجتهاد في التفسير والاستنتاج، وهذه رياضة محبوبة. بالمقابل، أجد أن معلمنا أنطونيو غرامشي قد أمرنا، كمثقفين، أو كأشباه مثقفين حتى لا أحيج البعض إلى وصمي بها، أن نكون أصحاب مواقف واضحة، ولو على حساب الاحتفاء بنا. مسؤولية المثقف العضوي الملتزم بقضية إنسانية وأخلاقية أن يُنبّه إلى ما يظنه انحرافًا أو خطأً. ومع التكرار، بأن عدو عدوي ليس من المحتم أن يكون صديقي، يا أولي الألباب.