بمجرد لقائهن رأس النظام السوري بشار الأسد، وإعلانهن تأييد النظام ووقوفهن مع “شهداء الجيش”، وتصريح وزارة الأوقاف السورية لهن بالنشاط العلني بسورية، بعد عقود من النشاط “السرّي”؛ دخلت حركة القبيسيات في معمعة الصراع السوري الداخلي، وهي حركة تستخدم الدين لخدمة مصالح النظام السياسية، وهي قائمة بالأساس على “التقية”، وهي أداة استخدمها النظام عقودًا طويلة لاختراق البيوت الدمشقية الأرستقراطية والحلبية والحمصية كذلك من الطبقة البرجوازية.
وهنا نُحاول الإجابة عن ثلاثة محاور قامت عليها القبيسيات وهي:
ظاهرة الإسلام البرجوازي أو الإسلام الأبيض: كان الإسلام على الدوام دين الفقراء والمستضعفين، ولكن حركة القبيسيات كانت الجسد الذي استخدمه النظام لإرضاء الطبقة البرجوازية الأرستقراطية الدمشقية والحلبية المحافظة بشكل أساسي، والمعروف أن تجار الشام وحلب يوصفون على الدوام بـ “أم الصبي”، وهم أحد أهم دعائم نظام الأسد الأب والابن، ومن “عظام الرقبة”، وقد حملت القبيسيات خطابًا مزدوجًا ومتناقضًا، ففي الوقت الذي يزعمن فيه مبدأ اللاعنف وأن الجهاد هو “جهاد النفس”، لحماية نظام علماني، يستخدمن دينًا متشددًا ونوعًا من “الثيوقراطية الدينية”، حتى في اللباس (اللباس يعبّر لديهن عن طبقات ودرجات العلم؛ فيبدأ بالجلباب أو المانطو الأبيض، ويتدرج إلى الكحلي والأسود بإيشارب أبيض، وصولًا إلى الأسود الكامل)، والمأكل والمشرب، ودرجة جواز المصافحة من عدمها، ومنع الزواج إلا داخل مجتمع القبيسيات ذاته، والكثير من القبيسيات يقتربن إلى الرهبنة المسيحية، وقد أجزن بالمقابل مصافحة رأس النظام السوري، خلال لقاءاته.
في جذور تأسيس الحركة القبيسية، على يد الدمشقية منيرة القبيسي التي انشقت على معلمتها درية العيطة، واجهت تلك الحركة انقسامات ومدارس وتيارات متعددة، ولأن ثورة الإخوان المسلمين عام 1979، ضد النظام السوري، كانت ثورة مدينةٍ مثل حماة، وامتدت إلى حلب ولم تنتشر في الريف السوري، فقد تركزت تلك الحركة الإسلامية آنذاك على البرجوازية في تلك المدن، وصوّرت الإسلام على أنه “ثورة الأغنياء” على نظام علماني فاسد، وبعد حركة رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد عام 1983، بإجبار الدمشقيات ومدن اللاذقية وغيرها من المدن السورية، على خلع الحجاب في الشوارع، ظهر حافظ الأسد كمخلص للشعب السوري المتدين بطبيعته من شرور أخيه، فتمددت تلك الحركة النسوية الدينية المنعزلة أي القبيسيات واللاعنفية، بحسب مبادئها الصوفية، داخل مجتمعات المدن السورية، لترسيخ الإسلام البرجوازي، أو كما يُسمى “الإسلام الأبيض”، وبذلك يحققن هدفين:
الأول: استخدام التفسيرات الخاطئة والتلاعب بالنصوص المقدسة، لتأسيس نظام ديني يستند إلى “السوق” الذي يحوّل النساء إلى سلع، فيتمّ التعامل معهن على هذا النحو، فلا مجال أمام المسلمة الفقيرة للوصول إلى درجات عليا بالقبيسيات، بل هن مجرد “مريدات” و”خادمات” للمعلمات والشيخات أو الحجات. وهذا نوع من عبودية مقنعة للمرأة.
الثاني: ترويج أزيائهن، واختراع نوع من الموضة والجمال الملازم للحجاب، فهن يشترين أغلى الماركات، ويروجن لأكبر عمليات للجراحة التجميلية، حيث يحتل الشرق الأوسط أكبر موقع عمليات لجراحة التجميل بالعالم، وبالتالي يستخدمن الدين لغايات تجارية بحتة، والتعليم في المدارس التابعة لهن بدمشق وغيرها هو تعليم تجاري ومرتفع التكلفة، ويستهدف العائلات الغنية. ويستحيل وجود شيخة من القبيسيات لا تمتلك سيارة، أو منزلًا فارهًا، حتى المعلمات والآنسات فيهن، وبالمقابل لا يخضعن لمساءلة أحد “من أين لك هذا؟”.
الترويج للنسوية الإسلامية: النسوية الإسلامية هي تأنيث وقناع للأصولية الدينية الأبوية، وهدفها إعطاء انطباع عن وجه ودي لليمين الإسلامي المتطرف، بشكل يخدم غايات النظام السوري، وغيره من الأنظمة في المنطقة، وتعرف الحركة النسوية بأنها “حركة ثورية ذات مضمون فكري يسعى لهدم الصور النمطية عن المرأة، ويحمل لواء الدفاع عن حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، ليخلصها من الحالة المتردية والتبعية الاجتماعية والفكرية للرجل وهيمنته عليها”، وهو بالفعل ما جسدته حركة القبيسيات؛ فهن يفسرن النصوص تفسيرًا نسويًا، والمريدة لا تتخرج إلا على يد معلمة، والمعلمة عن شيخة، وصولًا إلى رأس الهرم، عكس الكفتاريات ومجمع أبو النور بدمشق، حيث يتخرجن الداعيات على يد شيوخ ذكور، وبالتالي فهي حركة نسوية انعزالية بالمطلق، وفيها نوع من الخلوة والحج إلى شيخة القبيسيات، والامتناع عن الزواج، أو التزويج داخل مجتمعهن الأرستقراطي.
خطاب ديني مخملي: تزعم القبيسيات أنهن يدعون للفضائل وترسيخ الأخلاق للمرأة في المجتمع، وأن ذلك نوع من إعادة التوازن في المجتمع، عبر تثقيف المرأة بالدين والعقيدة الإسلامية. وتدخل الحركة ضمن الحركات الاجتماعية الإصلاحية، ولا ترقى إلى مرتبة تنظيم، وهدفها كحركة دينية هو التعليم الديني ونشر الأخلاق الإسلامية في المجتمع بين فئات النساء كافة، وتربية البنات بحسب الأصول الدينية، في مواجهة الأفكار اليسارية التحررية والعلمانية والليبرالية والإلحاد. هذا القفاز الديني المخملي في ظاهره أثبت مع الزمن أنه كذبة سياسية لترسيخ مفاهيم الطاعة المطلقة للنظام، وإبعاد نصف المجتمع ونفيه في إطار ديني، وعرقلة أي حراك نسوي سوري مناهض للنظام السياسي. فضلًا عن كذبة أنها كانت حركة سرية طوال عقود، والكل يعلم مدى تغلغل استخبارات النظام في المجتمع السوري.
في النهاية، تمردت المرأة السورية على النظام، بل قادت التظاهرات ورفعت السلاح في ثورة الشعب السوري، ولا يمكنها البقاء في خضم عصا الطاعة والخضوع، بل إنها دفعت ولا تزال تدفع ثمن تمردها، فهناك أكثر من ثمانية آلاف معتقلة في سجون النظام، وأكثر من عشرين ألف ضحية. وبالتالي لن يمرّ أو ينطلي عليها، وهي بهذا المستوى من الوعي، مثل تلك الحركة الخادعة والخادمة لنظام مزرعة الأسد.