استيقظت قرى الريف الجنوبي الشرقي في محافظة الرقة، يوم أمس، 5 كانون الثاني/ يناير 2020، على خبر وقوع مجزرتين مروعتين قُتل فيهما 21 شخصًا من مدنيي المنطقة. المجزرتان وقعتا بعد منتصف الليلة الماضية، في منطقةٍ بسط النظام السوري سيطرته عليها، بعد اندحار تنظيم (داعش) وانحسار سلطته عليها، منذ أكثر من عامين. المجزرة الأولى ذهبت بحياة 14 شخصًا في براري بلدة “معدان”، في بُقعة تُسمى “تروازية العليو”، بينما أودت الثانية بحياة 7 أشخاص، في بُقعة تُسمى برية “الغانم العلي”، والمسافة بين البقعتين حوالي 30 كم. إضافة إلى أن هناك 3 أشخاص آخرين ما زالوا في عداد المختفين، حتى ساعة كتابة هذا التقرير.
ضحايا المجزرتين هم من الغنّامة الذين يبيتون مع أغنامهم في مناطق الرعي، في أوقات محددة من العام، أو يخرجون من قراهم نحو البادية للبحث عن مرعًى، وهم ليسوا من البدو الرُحّل بالمعنى المتعارف عليه، بل أنصاف بدو، إن جاز التعبير؛ وهم من سكان القرى المُحاذية لبادية الشام من طرفها الشمالي من جانب، وتُحاذي من جانب آخر السهل الزراعي المُمتد على الضفة اليمنى الجنوبية لنهر الفرات. ويتضح من طريقة القتل، بالرصاص أولًا، ثم الإجهاز على الجرحى بالسكاكين، أن القتلة لم يكونوا في عجلة من أمرهم، وأن عملية القتل، ثم التمثيل بأجساد الجرحى والقتلى، تحمل شحنة انفعالية قوية، وإن ترك القتلة قطعان الأغنام دون سرقتها ينفي فرضية القتل بقصد السرقة.
ثلاثة أطفال بأعمار 8 و9 سنوات نجوا من الموت، إضافة إلى أحد الرعيان، وهم من نقلوا جوانب من المجزرة التي بدأت أصيل اليوم السابق 4 كانون الثاني، عندما جاءت مجموعة القتلة وشرعت فورًا في تقييد أيدي وأرجل الرجال والشباب ثم قتلهم. القتلة ظلّوا في المكان حتى صباح اليوم التالي، 5 كانون الثاني، قبل أن يغادروا مصطحبين معهم “سيارات الضحايا ودراجات نارية، وكمية من المازوت وجدوها في خزانات الوقود الثابتة، وبضعة رؤوس من الأغنام”.
وعند انتشار أخبار المجزرتين وأسماء الضحايا في وسائل التواصل الاجتماعي المحلية، انقسم السكان المحليون إلى قسمين: الأول يرى أن مرتكبي الجريمة هم من بقايا تنظيم (داعش) الذين يجوبون مناطق البادية السورية في مجموعات صغيرة، والآخر يرى أن “فيلق القدس” الذي ينتشر في المنطقة، بظل الوجود الاسمي لنظام بشار الأسد، هو من نفذ المجزرتين، خاصة أن مجموعات (داعش) هذه لم تظهر في المنطقة، منذ ربيع العام قبل الماضي.
بعد ظهر اليوم نفسه، بدا أن التحليل الثاني يرجح بين المتابعين على الأول. ويُشير السيد “ف. ب” إلى أن شهود العيان الناجين من المجزرة في طريقهم إلى مكان آمن، وأنهم سيفشون بالضرورة مزيدًا من التفاصيل والمعلومات المؤكدة، ساعة يستقرون ويشعرون بالأمان على حيواتهم. الأمر الذي يوحي أن لا أمان لشاهدي العيان هذين في مناطق سيطرة النظام. ومن المرجح أن تكون وجهة هؤلاء الناجين مناطق سيطرة الأميركيين والميليشيات الكردية، على الضفة اليسرى الشمالية لنهر الفرات، وربما مدينة الرقة ذاتها. وفي الساعات ذاتها، انتشرت أخبار إضافية تقول إن القتلة أطلقوا هتافات “إيرانية”، بحسب تعبير أحد أبناء المنطقة؛ كما انتشرت تحليلات تربط بين المجزرة ومقتل قائد “فيلق القدس” الإيراني، قاسم سليماني، بغارة أميركية على مطار بغداد الدولي قبل يومين. وخاصة بعد إطلاق إيران وحلفائها موجة من التهديدات، إذ رفعت السلطات الإيرانية “راية الثأر الحمراء” فوق عدد من المقار والمباني في إيران، في تعبير صريح عن النية في الانتقام لمقتل سليماني.
ومنطقة ريف الرقة الجنوبي الشرقي المُرتبطة -جغرافيًا وبشريًا- بريف دير الزور الجنوبي الغربي والشرقي، وصولًا إلى الحدود السورية العراقية، تحوّلت، في العامين التاليين لطرد (داعش) منها، إلى مسرحٍ لنشاط الإيرانيين الهادف إلى تشييعها. وهو مشروع كانت إيران تعمل عليه قبل اندلاع الثورة السورية في العام 2011. ومن المعروف أيضًا أن القادة المحليين للميليشيات المرتبطة بإيران والعاملة في المنطقة حاليًا هم من المتشيعين الجُدد الذين تحوّلوا إلى المذهب الشيعي، على إثر موجة التشييع الأولى التي أطلقتها إيران في الأرياف الفقيرة في الرقة وحلب ودير الزور في العقد الأول من الألفية.
جانب آخر من رواية هذه المذبحة يُشير إليه ناشطون محليون يتجاوز قومية ومذهب ضحايا المجزرة، كلهم من العرب السنّة، ويُلمِّح إلى علاقتها بالمكان ورمزيته. فموقع المجزرة الأولى لا يبعد أكثر من 13 كم عن قرية “صفين”. واسم هذه القرية: “صفين” -على افتراض أنها المكان الفعلي للموقعة التاريخية الأشهر في التاريخ الإسلامي، ومفتتح كل الصراعات البينية ذات الطابع المذهبي والطائفي في تاريخ العرب والمسلمين عامة- يحمل دلالة رمزية هائلة في المخيال الجمعي الشيعي، حيث خسر جيش على بن أبي طالب المعركة، أمام جيش معاوية بن أبي سفيان، في صراعهما على السلطة الذي بقي ولا يزال يرخي بظلاله على أهل المنطقة حتى ليلة أمس.