الأكيد أن ملايين السوريين والعراقيين والعرب فرحوا بمقتل قائد “فيلق القدس”، ونائب رئيس “الحشد الشعبي”، وعدد من الضباط الإيرانيين المرافقين له، وكان واضحًا أن انتفاضة العراق التي يشارك فيها “الشيعة العرب” أعلنت ابتهاجها برحيل هذا المجرم الكبير الذي لعب دورًا مهمًا واستثنائيًا في تمدد إيران وسيطرتها على عدد من العواصم العربية، ومحاولة وأد انتفاضة العراق، ومن قبلها انتشال النظام السوري من السقوط.
كثيرة المهام المؤذية التي نفّذها هذا القائد الإيراني ضد الشعوب العربية وثوراتها لانتزاع الحرية، والتخلّص من نظم الاستبداد والتبعية، حتى اعتُبر من أهم الشخصيات الإيرانية بعد خامنئي (ولي الفقيه)، ومن أكثر الذين عملوا على تغلغل المشروع الإيراني في الجسد العربي، ونشر المذهبية، ومحاربة قوى الثورة السورية، وصولًا إلى لبنان واليمن، بينما كانت بصماته قوية في إنشاء وتنظيم “الحشد الشعبي” الطائفي، وفي السيطرة على الوضع العراقي عبر الأدوات التابعة لإيران.
لكن أسئلة متزاحمة تطرح نفسها عن سكوت الولايات المتحدة الأميركية كل هذه السنوات، على الدور الذي قام به، وتمكين إيران من السيطرة على عدد من العواصم العربية، ثم اتخاذ الرئيس الأميركي قرار اغتياله ومن معه، بما يطرح احتمالات متعددة عن التوقيت، والأسباب وحساب التداعيات، وردّات الفعل.
يعرف الجميع أن أميركا التي غزت العراق واحتلته وفككت الدولة العراقية قد مكّنت إيران من وضع يدها على مفاصل العراق، والتغلغل فيه إلى درجة السيطرة، وتعميق الحالة الطائفية وترسيمها، بدءًا من “دستور بريمر”، ووصولًا إلى دعم إنشاء الحشد الشعبي وممارساته الطائفية والعنصرية بحق “السنة العرب” والأكراد، تحت شعار محاربة الإرهاب، كما صمتت على الدور الخطير الذي مارسه قاسم سليماني في سورية والعراق وعموم البلدان العربية، وتجوّله الحر في المدن السورية ومناطق الاشتباك، وجلب الميليشيات الطائفية من شتى البلدان لمحاربة الشعب السوري المطالب بالحرية، وإنشاء ما يعرف بـ “الدفاع الوطني”، وتزويده بالخبراء والأسلحة، وإمداد “حزب الله” بشتى أنواع الدعم والأسلحة.
ألغت الإدارة الأميركية برئاسة ترامب الاتفاق النووي مع إيران، وطرحت سياسة المقاطعة الاقتصادية، كسبيل للتضييق على النظام الإيراني وتقليم وجوده في المنطقة، لكنها لم تفكر في أكثر من ذلك، بالرغم من تحرّشات إيران المنظمة بأميركا، وضرب مصافي النفط بـ (أرامكو)، ومن المعروف أن العقوبات الاقتصادية لا تنهي نظامًا يمتلك علاقات دولية قوية، على الرغم مما تسببه من إنهاك وإضعاف، وهذا ما يدعم طرح أسئلة عن الأهداف الأميركية حول إيران: هل تصل إلى حدّ العمل على إسقاط النظام حربًا، أم بالوسائل الأخرى؟
لا شكّ في أن لوحة الوضع معقّدة، في ما يخصّ العلاقات الأميركية – الإيرانية، والإيرانية – الإسرائيلية، حتى إن حالة العداء تبدو هي السائدة وصولًا إلى العمل على التخلّص من النظام الإيراني، في حين أن مسار العلاقات والوقائع كانا يبرهنان على شيء آخر مختلف، يصل إلى حدّ التواطؤ مع إيران للاستمرار في سياستها الاحتوائية للبلدان العربية، وإحداث الفتن والحروب الأهلية، على نحو يصبّ في استراتيجية خطيرة تتلخّص باختراق المجتمعات العربية من داخلها، وإحداث شروخات عمودية فيها على أسس مذهبية، تقدّم أكبر الخدمات للصهيونية العالمية من جهة، وللسياسة الأميركية الاستراتيجية من جهة أخرى.
صحيح أن أميركا و”إسرائيل” لا تقبلان بامتلاك إيران للسلاح النووي، وتعدّان ذلك خطًا أحمر يحمل معه كل المخاطر الراهنة والقادمة (خاصة مع احتمالات تغيير النظام الإيراني)، لذلك تقومان بمنع إيران من الوصول إلى إنتاجه، حتى لو اضطرّت أميركا، أو إسرائيل، إلى استخدام القوة لتدمير المشروع النووي الإيراني، وفي الوقت نفسه نجد أن وجود النظام الإيراني بمشروعه القومي المذهبي، وما حققه عبر السنوات من توغل في الدول العربية، ومن إحداث شروخات عميقة في عدد من المجتمعات العربية، يمثل حاجة أميركية – إسرائيلية يجب الحفاظ عليها ضمن تلك المروحة من العلاقات والخلافات.
لكن يبدو أن هناك عوامل جديدة دخلت على هذه اللوحة، وجعلتها مضطربة وشديدة التعقيد، بدءًا من تحرشات فصائل من “الحشد الشعبي” بالأميركان عبر قصف بعض القواعد الأميركية، ثم الردّ الأميركي السريع والقوي ضد عدد من “الحشد الشعبي” ومقتل 25 منهم، وتدمير بعض القواعد والأسلحة، وصولًا إلى التطور النوعي باتخاذ قرار تصفية سليماني، على إثر اقتحام السفارة الأميركية في بغداد، واتهام سليماني بدور بارز فيها.
يسوق الرئيس الأميركي عددًا من الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ قراره، وأهمها: وجود معلومات استخبارية بعزم سليماني على القيام بعدد من العمليات الإرهابية التي تستهدف الأميركيين في العراق وغيره، وأن اجتماعات عُقدت في بغداد منذ مدة قصيرة هدفها القيام بعدد من العمليات ضد أميركا، وهذا ما جعل الرئيس الأميركي يكرر على أن حماية الأميركيين هدف رئيس، وأنه في سبيل ذلك مستعد للقيام بكل ما يحفظ حياة ومصالح الأميركيين.
طبعًا، هناك من يشكك في صحة هذه المعلومات، ويرى أنها مجرد ذريعة لتبرير قرار ترامب، وأن أهدافًا أخرى هي الدافع الرئيس، كتلك التي لها علاقة بالوضع الخاص للرئيس، وتوقيت الضربة مع موعد محاكمة ترامب في مجلس الشيوخ، وكذلك الانتخابات الرئاسية القادمة، حيث إن تسخين الوضع مع إيران يمكن أن يصرف الأنظار عن الشأن الداخلي، ويعزز شعبية الرئيس ويُبرزه كمدافع غيور على أميركا والأميركيين، وأنه يملك الشجاعة الكافية لاتخاذ أي قرار يحمي أرواح وممتلكات الأميركيين.
على الجبهة الأخرى الخاصة بإيران، فإن “اصطياد” سليماني بهذه الطريقة المؤثرة سيدفع إيران إلى التفكير بردّ ما، على الأقل حفاظًا على سمعتها وماء وجهها، وفي الوقت نفسه، ستظل البراغماتية الإيرانية العامل الحاسم في أي تطور درامي، بشكل لا يدفع الأمور نحو حرب مفتوحة، أو واسعة لا يمكن لإيران أن تتحمل نتائجها، لذلك غالبًا ما ستلجأ إلى استخدام أذرعها التابعة، خاصة “حزب الله” اللبناني، و”الحشد الشعبي” العراقي، لتبدو وكأنها ليست المسؤول المباشر.
من جانب آخر، سيكون لهذه التطورات تأثيرها في الحراك الشعبي العراقي، وهناك خشية من اختلاط الأوراق، وهو هدف رئيس لإيران والقوى الطائفية التي ستضع يافطة الصراع مع أميركا كمبرر لقمع الانتفاضة الشعبية، وتحاول اختراقها بذريعة المواجهة مع أميركا. بكل الحالات، إن اغتيال سليماني أوجد حالة جديدة يمكن أن تكون لها تداعياتها الواسعة في ساحات ومجالات متعددة.