لم يكن مستغربًا تعرّض الليرة السورية للانهيار، في ظل حرب مستمرة منذ تسع سنوات، ودمار أكثر من 40 بالمئة من البنى التحتية السورية، ونزوح ولجوء نحو نصف الشعب السوري إلى دول الجوار ودول العالم، هربًا من النظام وحربه التي غيّرت حاضر سورية وستؤثر في مستقبله إلى زمن طويل.
خلال هذا الشهر، تراجع سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار سريعًا، ليبلغ سعر صرف الدولار الواحد أكثر من 950 ليرة سورية، ولم يستطع النظام السوري وقف تراجعه الحاد، وباتت سورية تواجه خطر تعويم عملتها، ما قد يؤدي إلى انهيارات متتالية في المدى المنظور.
خسرت الليرة السورية أكثر من 100 بالمئة من قيمتها، خلال الشهرين الأخيرين، إذ كان سعر صرف الدولار 463 ليرة سورية، نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، ووفق اختصاصيين، من غير المتوقع أن تستطيع الحكومة السورية السيطرة على تراجع الليرة المستمر منذ بداية الثورة السورية عام 2011 حتى اليوم، حيث كانت قيمة الدولار في ذلك العام نحو 50 ليرة، والآن تضاعفت قيمته 19 مرة.
بالتزامن مع التراجع الحاد في قيمة الليرة السورية، قرر 16 مجلسًا من المجالس المحلية في شمال شرق سورية، مناطق سيطرة المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا، منع تداول الورقة النقدية السورية من فئة ألفي ليرة، وحددوا مهلة شهر للتخلص منها واستبدالها، وأعلنت المجالس أنه سيتم دفع فواتير الخدمات، مثل الإنترنت والكهرباء وغيرها، بالدولار الأميركي أو الليرة التركية.
وفئة الألفي ليرة تحمل صورة بشار الأسد، وأصدرها البنك المركزي السوري قبل سنتين، وتدور نقاشات في شمال سورية حول طباعتها من دون رصيد، بغرض امتصاص سيولة العملات الأجنبية من الأسواق في المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة التي تشرف عليها تركيا.
وعلى الرغم من صدور دعوات كثيرة، خلال السنوات الأخيرة، من أطراف في المعارضة السورية لسكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لاستخدام الليرة التركية أو الدولار بدلًا من الليرة السورية، فإن التعامل الأساسي بقي عبر الليرة السورية.
يقول أسامة القاضي، رئيس مجموعة عمل اقتصاد سورية: “تمر العملة الوطنية السورية بأسوأ كارثة اقتصادية منذ تاريخ نشوئها، حيث تدهورت قيمتها تدهورًا غير مسبوق. إن واقع الاقتصاد السوري الكارثي لا يُنبئ بمستقبل أفضل لليرة السورية التي لا يوجد لها حامل حقيقي من حجم سلع وخدمات، خصوصًا بعد حرمان ناتج الدخل القومي من مساهمات النفط والسياحة، وشلل شبه نصفي في الزراعة والصناعة والتجارة. إن التدخل (المكياجي) ذا النكهة الأمنية في السوق، بالضغط على الصرافين لدفع مبلغ خمسة ملايين دولار، أو إجبار بعض التجار على دفع عشرة ملايين دولار، أو سجن بعض الصرافين، وغير ذلك من الأدوات الأمنية المصرفية، سيكون عاملًا مثبطًا لتسارع هبوط الليرة، ولكنه لا يمكن أن يكون حلًا حقيقيًا للنهوض بقيمة الليرة”.
بدأ انهيار العملة المحلية السورية، بعد أن أصدر الرئيس السوري بشار الأسد، الشهر الماضي، مرسومًا يقضي بزيادة رواتب الموظّفين، وقد شملت الزيادة جميع موظفي الدولة المدنيين والعسكريين، حتى المؤقتين منهم، وهذه الزيادة أتت بشكل مفاجئ وغير متوقع، لأن سورية تمرّ أساسًا بضائقة مالية، نتيجة انهيار الاقتصاد وضعف التمويل القادم من الممولين الأساسيين للنظام السوري كإيران وروسيا.
ربط الباحث الاقتصادي السوري عارف دليلة سبب انهيار الليرة، بـ “تطور الأوضاع الداخلية، الأمنية منها بالدرجة الأولى، وكذلك الاقتصادية كاضمحلال الإنتاج من المنتجات الأساسية، والإنفاق والفساد المنفلت الذي لا يسنده أو يغطيه أي احتياطي أو دخل أو دعم خارجي هذه الأيام، لتأتي زيادة الرواتب الأخيرة في هذه الظروف، كسكب البنزين على النار! مع تأكيدنا أخيرًا أنَّ المواطنين يستحقون ويحتاجون إلى أضعاف أضعاف هذه الزيادة، ولكن كقيمة حقيقية تؤخذ من المنهوبات والفاسدين، وليس كزيادة اسمية فارغة تنتقص من إمكاناتهم الشحيحة”.
في بدايات تراجع قيمة الليرة السورية عام 2012، كان النظام السوري يقول إن السبب هو “المؤامرة الكونية”، وفيما بعد، قال إن السبب هو الحرب وتبعاتها، ثم الحصار الاقتصادي، وآخر الأسباب هو اكتشاف “مفاجئ” لتهريب المليارات خارج البلاد، حتى إنه اتهم رجال الأعمال السوريين بغش الحكومة ببيانات وهمية عن حجم أعمالهم، لكنها لم تستطع فعل شيء حقيقي لوقف هذا التراجع في قيمة الليرة.
لا يقوم النظام باتخاذ أي إجراء أو تدخل فاعل للحد من التدهور، ويعتقد البعض أن النظام يرعى بشكل ما هذا الانهيار، أو على الأقل لا يُبدي أي ممانعة للحد منه، لأن ارتفاع سعر صرف الدولار من شأنه أن يخفض من القيمة الفعلية لكتلة الرواتب المستحقة لأكثر من مليون ونصف مليون عامل، مدني وعسكري، وتُقدَّر تلك الكتلة، وفق سعر صرف افتراضي بـ 500 ليرة سورية، بملياري دولار سنويًا، ويمكنها أن تنخفض إلى مليار دولار في حال وصول الدولار إلى ألف ليرة.
كانت تصريحات بعض المسؤولين السوريين مُضحكة، فقد قال حاكم مصرف سورية المركزي، حازم قرفول، في حزيران/ يونيو 2019: إن “ارتفاع الدولار وهمي، وليس له أية مبررات اقتصادية، وليس له أي مستند على الأرض إطلاقًا، وإنما بعض المضاربين تعودوا على سياسة معينة للمصرف في الماضي، ويمكننا التحكم في سعر الصرف من خلال تحفيز الاقتصاد الوطني”، وقال وزير الاقتصاد، في كانون الأول/ ديسمبر 2019: “إن الواقع الاقتصادي يتحسن تدريجيًا، لكن المواطن لم يشعر بذلك”.
تُعاني سورية مشكلات عديدة: الفساد والسرقة العلنية، تهريب رؤوس الأموال، الحرب ونتائجها، العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية، عدم وجود خطة اقتصادية واضحة سابقة وحالية يقودها مختصون، كما تؤثر فيها العقوبات الاقتصادية على إيران التي أوقفت الخط الائتماني لسورية، وغير ذلك من العوامل.
يأتي انهيار الليرة السورية في ظل جو من الغضب والإحباط الشعبي العام، وتحميل النظام بأفراده وسياساته وتحالفاته الداخلية، مع مافيا المال وأمراء الحرب، مسؤولية الخراب الحالي، وتعتقد بعض أطراف المعارضة السورية أن انهيار العملة المحلية يمكن أن يساهم في سقوط النظام وانهياره، لكن وقائع الحال الاقتصادي تقول غير ذلك.
يقول القاضي: “إن أثر الانهيار الاقتصادي على الحكام شبه معدوم؛ لأن الأزمة الاقتصادية تخنق الشعب اقتصاديًا، ويُباد أي احتجاج بالحديد والنار، ولا يهتز عرش النظام المستبد، فها هو روبرت موغابي، في الموزامبيق، ظل متمسكًا بالسلطة 30 عامًا حتى صار عمره 93 سنة، على الرغم من الانهيار الاقتصادي والتضخم الذي بلغ أكثر من 70 مليارًا بالمئة! وأزيل عن حكمه بانقلاب وطُرد طردًا عسكريًا، وليس اقتصاديًا، مع أن عملة الموزامبيق بلغت أن دولارًا أميركيًا واحدًا صار يعادل ملياري دولار زيمبابوي، إن (الكائنات) السياسية المتسلطة بوحشية لا يؤثر فيها انهيار الاقتصاد، بل يزيدها (حيونة سياسية) وتستمتع بمقاومتها لـ (الإمبريالية)، وبقائها بالسلطة، بالرغم من تدمير البلاد وسحق الشعب وتجويعه”.
رافقت انهيار سعر صرف الليرة حركة تجارية غير معتادة في الأسواق، تجلت بشراء المواد الغذائية وبعض المستلزمات الضرورية، في ظل قناعة لدى السوريين بأن “اليوم أرخص من الغد”، ويشير ذلك إلى إحساس عام باستمرار الهبوط، وانعدام الوثوق بأي فاعلية للنظام على هذا الصعيد.
وعن علاج انهيار العملة، قال دليلة: “يكون ذلك بزيادة الإنتاج، وبعلاج كل أسباب توقف وانهيار العملية الإنتاجية والخدمية والاستيرادية في سورية، وعلى رأسها الفساد المركزي، والبدء الفوري بتأمين شروط عودة السوريين المهجرين والنازحين عن أرضهم وبيوتهم ومشاغلهم إليها، وإطلاق سراح المعتقلين، أي بوقف الخيار العسكري الأمني الإجرامي، والذهاب إلى الحل السياسي الذي لا يبدأ باللجنة الدستورية – الملهاة، إنما بتحقيق مطلب الشعب السوري، أي بالانتقال بسورية من نظام الاستبداد والنهب والفساد والانحطاط (اللاوطني واللاأخلاقي) إلى نظام الحرية والكرامة والتقدم والديمقراطية، ولكن الذي حصل هو اتباع منهجية كارثية والتنكّر للوظيفة الأساس للسلطة، وهي تحقيق التقدم الاقتصادي الاجتماعي ورفع مكانة الوطن والمواطن المادية والمعنوية الحضارية”.
إذا كانت هذه هي الحلول لوقف تدهور قيمة الليرة السورية، فإننا نخشى أن ينتظر السوريون كثيرًا، ويراقبوا انهيارات متتالية في قيمة عملتهم، لأن ما تحدّث به دليلة هو ما يُطالب به السوريون منذ تسع سنوات، ولم يقبل النظام السوري أن يحقق منه شيئًا على الإطلاق.