“تسجيل لأقسى اللحظات التي عشتُها في يوم التهجير القسري من حلب”
لا أريد أن أنسى ذلك، أراجع اللحظات كي لا أنسى تفصيلًا واحدًا من هذا اليوم، وأمنعها من النسيان، كان يومًا قاسيًا، بل كان دهرًا كاملًا يلبس ثوب يوم، مشاعر الفرح بأننا خرجنا من الجحيم، ومشاعر الحزن العميق مع الصوت المرتجف، والوجه الذي لا أعرف له ملامح، أنزل الحقائب كسيزيف، وعيني على طفلي الذي ما زال جنينًا، وضعت الحقائب بالسيارة، وأنا أحاول أن أخترع أي شيء كي لا أتحرك، تارةً أتفقد الأغراض، وتارة أصرخ، تارةً أضحك، تارةً أبكي، ولكن الدمع الذي كان عزيزًا أصبح يسيل بكل سهولة.
في أذني صوتُ أبي المتهدج يأتي إليّ قبيل وفاته، وكان يلحّ كل يوم جمعة أن أزور بيت جدي: “زرت بيت جدك؟ كان في كبادة كبيرة جبلي وحدة معك…”، وصوت أمي وهي تقول لي بصوت يتحدى الأمن على الاتصالات، لأنها كانت في الطرف المقابل: “الله ينصرك، لا تخاف أنا ربّيت رجّال”، والبرد الذي أصاب أطرافي، وكأنها كانت تستعد للحظة الموت، كل هذه المشاعر تجتمع في تمام الساعة الواحدة ظهرًا، عندما غادرت بيتي إلى ساحة السكري.
وصلت إلى الساحة، وأصابعي لم تعد تتحرك، أصبحت بيضاء جف الدم فيها، لبستُ القبعة والشال على كتفي، كي أحاول ألا يعرفني أحد، أحاول طمس معالمي، خجلت من أهلي ومن ناسي، لأني لم أستطع أن أفي بما وعدتهم، ألا يدخل إلا على جثثنا، وجلست على الحقائب، ورحتُ أطمئن على بقية الأصحاب، وكأني أرحل إلى غير موضوع هروبًا.
زوجتي بجانبي تحاول معرفة مشاعري، تظللني كشجرة النارنج في بيت أجدادي، أمشي لكي أحجز لنا مكانًا في الخروج، لكن حتى هذه اللحظات القاسية كانت بحاجة إلى تدخلات، تآلفت مع الواقع، وكان قد هطل المساء علينا، ونحن جالسون في الشارع ننتظر قدوم الباص إلينا، ولكن الليل قد جُن والبرد قارس، فقمنا بإشعال نار حولنا علّها تدفئ قلوبنا، ورأينا حبلًا طويلًا من الناس كان ينتظر، ونحن كنا في ذيل الحبل، ولا يمكن أن يصل إلينا الدور، فقررت أن أتحرك.
يركض نحوي كأنه قذيفة مدفع، يقول لي هناك من يلاحقني أنا وأنت، ويجب أن نغادر المكان فورًا، طبعًا علمت من هم الذين يلاحقونني، صعدتُ إلى منزلٍ وضعت فيه حقائبي، وقمت برمي ذكرياتي كاملةً مع أغراضي وملابسي حتى “ديارة” طفلي القادم، وزوجتي تمسك يديّ عند رمي كل غرض مذكرة لي: هذا كان كذا، هذه جلبتها لي في كذا، وأنا صرختُ إما نحن أو الأغراض، لا يمكن أن أحملها كلها، حملنا حقيبتين على الكتف، وقررنا أنا وشجرة النارنج أن نتقدم إلى الأمام إلى المعبر (الراموسة) وصلنا إلى المعبر، وكان البرد قد أكل أطرافنا، ونهش عظمنا، بحثت عن حائط أُشعل فيه بعض النار بوادٍ غير ذي زرع، وأنا أقول: يا رب أعوذ بك من قهر الرجال.
شعرت بما شعرت به السيدة مريم، وأدركت لماذا قالت: “يا ليتني متّ قبل هذا وكنتُ نسيًا منسيًا”، وأنا أتلقى خبرًا، مفاده أنهم طلبوا باصات إضافية، وأنّ أحدهم على وشك الوصول، تسمّرت عيناي على مفرق الطريق أنتظر وصول طائر الرخ الذي سيحملني اقتلاعًا من أرضي، وها قد وصل، غُرست أرجلي بالأرض لم أستطع التحرك تجاه الباص، يدي بيد زوجتي، وأنا أقول لها هذا يوم القيامة، ولكني لن أقول لك نفسي نفسي، بل أنت نفسي، أغمضتُ عينيّ وسلمت نفسي إلى الزحام يجرفنا إلى الباص، وجدت نفسي داخل الباص، عناصر الهلال الأحمر تتفَرس الوجوه، تتعرف إلى مشاعر الناس، أو يبدو أنها تبحث عن شيء ما، بدأت استوعب قليلًا أين أنا، كان الليل طويلًا والطريق أطول، وبدأت أبحث عن وشاح علم الثورة، لأني قررت أن أتوشحه، توقف الباص على حاجز لقوات الاحتلال الروسي، تصاعدت أنفاسي وكاد قلبي يتوقف، فأنا لا أريد أن تقع عيناي بعيني أحدهم كي لا أفقد أعصابي، أو كرامتي. حمدت الله أن لم يصعد أحد إلى الباص الذي أنا فيه، أو يبدو أنه صعد إلى باب الباص ولم يتقدم إلى الأمام، أشحت بنظري إلى النافذة لأرى حلب ليلًا. نعم كانت النعمة التي أحرزتها أنني غادرت ليلًا، لأرى أجمل ما عشقت بحلب ليلها.
ثقيلًا كان الوقت، كعجوز يحاول أن يمشي على طريق ترابي، رأيت ليل حلب وودعته واستودعت نسيمها الذي لا أنسى ريحه ما حييت، إلى أن رأيت علم الثورة مرفرفًا على معبر الراشدين، فأدركت أني غادرت فعلًا، ووصلت إلى المحرر، وكنت متشحًا بعلم الثورة، فنهضت كالفينيق أحاول أن امتلك نفسي، نزلت من الباص، ووطأت أرض الريف الغربي لحلب المحررة.
سجلت اليوم الأخير بحلب وتفاصيله، كنت أحفر في جلدي لاستخراج الكلمات المحفوظة داخله، حفظًا لها من النسيان، تلوت عليه شهادته وأقواله وعليه وقّع.