لا شك في أن المقال مستفز وغير معهود، ولكن عسى أن يستيقظ بعض النيام ويتداركوا ما يمكن تداركه، ولعله يظهر بين ظهراني العرب من يُؤْمِن بعروبته كإيمان قاسم سليماني بفارسيته، مع فارق أن العروبة مشروع حق ومسالم، والمشروع الفارسي عدواني ودامي ومؤسَّس على الأكاذيب والخرافات وغسل الأدمغة.
قاسم سليماني لم يكن مجرد قائد عسكري عملياتي، بل كان مفكرًا ومنشئًا للمحتوى، ولم يكن مجرد منفذ له بل كان شريكًا رئيسًا ومهمًا في كل قرارات المرشد على الصعيد الخارجي، وفي كثير من المسائل الداخلية، وكان صوت الرجل يُعدّ من الأصوات المهمة جدًا في مسألة تحديد خليفة المرشد الخامنئي، وكان شريكًا وصاحب قرار في مسألة تصدير الثورة، وهي المسألة الأهم في نظام الملالي، حيث أنفقت على هذا المشروع مئات مليارات الدولارات منذ أربعين عامًا، وما زالت تنفق إلى يومنا هذا بالرغم من كل الصعاب الاقتصادية التي تواجهها إيران، ذلك المشروع المبني على خرافة المهدي المنتظر وتهيئة السبل لظهوره، وإن كان هذا المشروع مجرد غطاء لمشروع حقيقي وأعمق هو استعادة مجد الإمبراطورية الفارسية، حيث تسعى إيران للسيطرة على كامل الخليج العربي والعراق وسورية وتركيا والجزيرة العربية، وأيًا كان المشروع الإيراني اليوم، دينيًا أم قوميًا، فهو بالنتيجة مشروع قائم على الحروب والدماء والمكائد السياسية.
بالعودة لقاسم سليماني الفارسي الذي أمضى عمره في خدمة مشروع آمَن به ومنحه كل جهده ووقته متنقلًا من معسكر إلى آخر، من اليمن إلى بيروت، ومن بغداد إلى دمشق، وكان تحت تصرفه ميزانية مفتوحة من المال كأحد الأسلحة الضرورية في معاركه، إلى جانب الفكر والسلاح والدهاء السياسي، وأمست كلمته قرارًا بالنسبة إلى المرشد الأعلى، وكنا نشاهد أغلب صوره التي حاول على الدوام إظهار نفسه بمظهر الهادئ المتزن المتواضع يجلس في الجبال والجبهات بين المقاتلين بعيدًا من مظاهر البذخ والترف مرتديًا ثيابًا عادية، ولولا معرفتنا بإجرام الرجل؛ لظننا أنه قديس من زمن مضى.
أقول هذا وأفكر في من يمكن أن يكون ندًا لهذا الرجل في عالمنا العربي؟ أو من هو الرجل العربي الذي قدّم لقضايا العرب ما قدمه قاسم سليماني للفرس؟ من هو الرجل العربي الذي جاب الوطن العربي وأجزاء واسعة من العالم، لخدمة قضايا العرب وعلى رأسها فلسطين؟ هل هو الفارق بالإرادة أو الإمكانات؟
من الرجل العربي الذي شكّل ظاهرة بالنسبة إلى المشروع العربي بحجم قاسم سليماني بالنسبة إلى المشروع الإيراني؟ هذه أسئلة مشروعة بغض النظر عن مشروعية القضايا، فهتلر ونابليون وتشرشل وشارون إلخ إلخ… كان لكل منهم مشروعة، بغض النظر عن أخلاقية هذا المشروع من عدمها.
لم يخطر في خلدي غير ياسر عرفات الذي قاد النضال في سبيل قضيته جُل سنوات عمره، حتى ارتبطت القضية الفلسطينية باسمه بشكل من الأشكال، ولكن مهمة الرجل لم تكن بسهولة مهمة قاسم سليماني، فسليماني كان الغرب يساعده بشكل غير مباشر، عبر الصمت على جرائمه من أجل استمرار الخلاف العربي الفارسي أو الشيعي السني، وساعدته أميركا في إزاحة صدام حسين من وجهه في العراق، حتى أصبحت كلمة سليماني هي العليا في العراق ولبنان وسورية واليمن وأجزاء كبيرة من إفريقيا، حيث لا حديث عن نشاط الحرس الثوري هناك.
ما حصل مع عرفات هو على العكس تمامًا؛ فبدل أن تكون كلمته أو كلمة الثورة الفلسطينية هي العليا في المحيط العربي، كان على الدوام ضحية تقاسم العرب النفوذ في القضية الفلسطينية، حيث حاول كثير من القادة العرب الاستئثار بهذه القضية، ليس من أجل تحرير فلسطين وإنما كورقة يساومون عليها، وعلى رأس هؤلاء كان حافظ الأسد وصدام حسين والملك حسين والسادات، وكانت القضية الفلسطينية (الورقة) ضحية خلافات القادة العرب ونزاعاتهم وشقاقاتهم المستمرة حتى يومنا هذا، ومع كل نزاع عربي عربي، يكون الخاسر الأول هو القضية الفلسطينية.
يبقى السؤال المؤلم لكل مواطن عربي: ما هو المشروع العربي؟ وإذا تخلى العرب اليوم عن قضيتهم المركزية فلسطين فما هو مشروعهم؟ قرأنا مجلدات عن مشاريع صهيونية وأخرى فارسية، ولَم نقرأ يومًا ورقة واحدة جادة عن مشروع عربي.
لدى العرب آلاف الأبطال، وهم أكثر شجاعةً ودهاءً وذكاءً من سليماني، وأكثر إيمانًا بعروبتهم من إيمانه بفارسيته، لكننا -مع الأسف- نصنع الأبطال لنقدّمهم ضحايا وأكباش فداء، مقابل مصالح ضيقة لا تتعدى الكرسي الذي يجلس عليه هذا الحاكم أو ذاك، ألم يترك العرب ياسر عرفات وحيدًا محاصرًا في غرفة وحمام قبل قتله تسميمًا؟ العرب يصنعون من القادة آلهة يعبدونها، ويحوّلون أبطالهم إلى ضحايا.