من يُطلق العنوان لهذا الحراك أو ذاك؟ من يمكنه رسم الإطار العام للحراك ووضع أهدافه وغايته وسقفه؟
في تونس، أطلق أهل تونس على حراكهم اسم “ثورة الياسمين”، في سورية سمّاها أهلها “ثورة الكرامة”، وفي العراق كان العنوان “نريد وطنًا”، ولا شك في أن لكل اسم مدلولات وأنه لم يأت من فراغ.
الثورة عادةً تكون لأجل تغيير شامل وعميق، بعد أن يدرك الجماهير أن السلطة القائمة باتت عاجزة عن تقديم حياة كريمة، والحفاظ على كرامات الناس، ولو بالحد الأدنى، والثورة تحصل في البلدان التي تنعدم فيها الحريات ويسودها الاستبداد وحكم الفرد والحزب الواحد، وإلا؛ كان الناس قد سعوا لإسقاط النظام الحاكم في صناديق الانتخابات، ولذلك من المستحيل أن نشهد ثورة في بلدٍ مثل فرنسا أو ألمانيا أو غيرها من الدول التي تنعم بالديمقراطية، ولكننا نشهد -بين الحين والآخر- احتجاجات على بعض القوانين التي ترسمها هذه الحكومة أو تلك، وغالبًا ما تتوصل الحكومات والمحتجين إلى حلول ترضي الطرفين، بسبب خضوع الطرفين للديمقراطية كإطار وضابط للنظام العام.
في سورية، وفي درعا على وجه التحديد، حيث كانت أولى محطات الثورة، كان العنوان هو الكرامة، ولم تكن المحافظة في تلك اللحظة تُعاني أوضاعًا اقتصادية صعبة، بل على العكس تمامًا، كانت تعيش أفضل نشاط اقتصادي بفضل عائدات المغتربين من أبناء المحافظة، حيث شهدت المحافظة، في العقدين الأخيرين، نهضة عمرانية وزراعية كبيرة، وكانت على أعتاب نهضة صناعية.
في بداية الثورة، حاول النظام تصوير الثورة على أنها احتجاجات مطلبية، وقام المسؤولون -على المستويات كافة- بمقابلة وفود من مختلف أنحاء المحافظة لسماع مطالبهم، بل كانوا أحيانًا يقولون للوفود الشعبية أن يطلبوا أكثر لترسيخ فكرة أن الحراك مجرد احتجاج مطلبي، وليس ثورة ذات هدف سياسي، وحين فشل النظام في ذلك، في شهري آذار ونيسان عام 2011، بدأ باللعب على أوتار جديدة، وهي الإرهاب والتكفيريين والطائفية، وذلك قبل عام كامل أو أكثر من ظهور أول تنظيم مخابراتي ذي صبغة إسلامية، وكان “جبهة النُصرة”، التي حاربت الثورة لاحقًا أكثر مما حاربها النظام.
منذ أيام، قام أهل السويداء بالاحتجاج على الظروف المعيشية الصعبة التي أوصل النظام البائس الشعب السوري إليها، وهذا حق مشروع لكل مواطن سوري أن يحتج، فالطعام والدواء والماء والكهرباء هي حقوق أساسية للإنسان، في سورية وفي العالم كله، وأن يُسمى الاحتجاج بهذا الاسم، أو أن يسمى حراكًا أو ثورة، أمرٌ منوط بمن قام بهذا الحراك، بناءً على الأهداف التي توافقوا عليها وعلى سقف الحراك الذي وضعوه لأنفسهم، ولا يحق لأي شخص أو طرف آخر أن يُطلق التسميات بحسب رغباته وأمنياته، فأصحاب الحراك هم وحدهم أصحاب الحق المطلق بإطلاق التسمية والهدف والسقف، وهذه النقطة كانت نقطة تجاذب جديدة بين السوريين، فمنهم من رحّب بهذا الحراك، بغض النظر عن اسمه ووصفه، ومنهم من عتب على المحتجين بأنهم تأخروا، ومنهم من قال لننتظر ونرى النتائج، وكالعادة عند كل محطة جديدة انقسم الناس على أنفسهم من جديد.
كانت السويداء منذ اليوم الأول للثورة موجودة ومتحفزة للمشاركة، وحصلت بعض الوقفات والاعتصامات، وكان أشهرها اعتصام المحامين، وفي الأشهر الأولى للثورة كان أبناء شرق درعا يلجؤون إلى شراء الدواء وبعض الأدوات الإسعافية من السويداء، بسبب عدم التمكن من الوصول إلى درعا ذلك الحين، حتى إن بعض الصيادلة رفضوا -في بعض الأحيان- تقاضي الثمن، وتم تشكيل كتيبة سلطان باشا الأطرش التي قادها الشهيد خلدون زين الدين، وبعدها شكّل الشيخ وحيد البلعوس ما سُمّي بتشكيل “رجال الكرامة” لحماية الشباب الرافضين أداء الخدمة العسكرية ولضبط الأمن، بعد أن تكررت عمليات الخطف والاعتقال من طرف النظام ومن طرف مجموعات (التشبيح)، إلى أن قام النظام المجرم باغتيال الشيخ البلعوس، عن طريق تفخيخ مسار طريقه ووضع حساسًا في سيارته كي ينفجر اللغم لحظة مرور السيارة، بحسب ما أفاد لاحقًا أحد المجرمين المشاركين، وإمعانًا في القذارة قام النظام باتهام أحد الرجال المهمّين في تشكيل رجال الكرامة، وهو الشهيد وافد أبو ترابة، ليتم تصفيته في سجنه كآلاف المعتقلين الذين صفاهم نظام الأسد في السجون.
كان لعدم انضمام السويداء إلى الثورة السورية بشكل كامل وجذري أسبابٌ موضوعية كثيرة، ومنها:
- موقف رجال الدين الذي تماهى مع مواقف باقي رجال الدين في المؤسسة الدينية الرسمية، من المفتي حسون إلى المطران لحام وبقية رجال الدين الذين اصطفوا إلى جانب النظام، وقد يكون لرجال الدين في السويداء تأثير أكبر، بسبب التزام شرائح واسعة من المجتمع بفتوى أو رأي رجل الدين، لأن المخالفة لهذا الرأي ينتج عنها نتائج اجتماعية قاسية ليست سهلة ولا يستطيع الجميع تحمّلها.
- موقف (الشبيحة)، وهم في غالبيتهم من أبناء المحافظة الذين اشترى النظام ذممهم، وغالبيتهم من ذوي التعليم المتوسط وما دون، وكان ذلك الأمر كارثيًا، لأن المواجهة مع هؤلاء الشبيحة ستكون كاقتتال داخلي، في مجتمع ما زالت فيه قيم العائلة والعشيرة موجودة ومتجذرة، وسيؤدي ذلك إلى حالات قتل وقتل مضاد من عمليات ثأر، وهذا ما أربك الحراك الثوري وجعله متعثرًا، فالوقوف في وجه الأسد كان يتطلب الوقوف في وجه المأجورين، وهذا كان سيؤدي بكامل المحافظة إلى المجهول.
- لا شك في أن بعض الشعارات الجهادية التي برزت منتصف عام 2012 مع ظهور “جبهة النصرة” وبعض فصائل “الجيش الحر”، كان لها دور أيضًا في دفع أهل السويداء والكثيرين خارج السويداء إلى عدم الانضمام إلى الثورة، علمًا أن هذه الشعارات كانت مدروسة من طرف النظام الذي رعى تشكيل كل التنظيمات الجهادية التكفيرية.
ما زالت هذه الأسباب قائمة اليوم، ولم يتغيّر منها شيء، إلا أن شدة المعاناة دفعت بعض الشباب إلى الاحتجاج، لذلك من الصعب جدًا أن يتحوّل هذا الحراك أو الاحتجاج إلى ثورة، وسيقصر أو يطول، بناءً على استجابة النظام لمطالب هؤلاء الشباب أو حصول تغيير جذري بموقف رجال الدين أو (الشبيحة) أو كليهما معًا، حينئذ يمكن للسويداء الانضمام إلى الثورة من أوسع أبوابها.
يبقى هناك تساؤل مشفوع بالعتب: ماذا لو انضمت السويداء إلى الثورة منذ عام 2011، هل كان النظام يستطيع أن يصفها بالمتطرفة والإسلاموية حينها؟ بالأمس كان يمكن للسويداء الاتكاء على حوران، وحوران الاتكاء على السويداء، لكن حوران اليوم لا تستطيع الاتكاء على ذاتها، لأسباب بات يعلمها الجميع، وهذا يزيد الأمر تعقيدًا اليوم بالنسبة إلى السويداء.
وأخيرًا، لا بد من التأكيد أن أي حراك ضد الطغمة الفاشية في دمشق، أيًا كانت أسبابه وأهدافه، مرحبٌ به، وأن لا خلاص لسوري دون الآخر من هذه المقتلة، فالخلاص جماعي، ويتمثل برحيل الطاغية ومحاكمته.