سجّلت الليرة السورية، منذ الأيام الأولى للشهر الحالي كانون الثاني/ يناير 2020، أرقامًا قياسية، في الهبوط، أمام باقي العملات الرئيسية، بعد تخطيها حاجز 1240 ليرة لكل دولار أميركي واحد، منتصف الشهر، في ظلّ ارتفاع عموم أسعار السلع والمواد الغذائية، التي ترافقت مع تعالي أصوات موالين ومعارضين بضرورة إيجاد حلول سريعة، ليأتي رد رأس النظام بشار الأسد بمرسومين، الهدف منهما ترهيب السوريين في مناطق سيطرته، فيما أصدرت حكومة عماد خميس قرارات عدّة لم يصبّ أيًا منها في مصلحة المواطن السوري الذي وصلت به الحال إلى ما دون خط الفقر.
يأتي هذا كله تزامنًا مع تصريحات المبعوث الأميركي الخاصّ لسورية والتحالف الدولي لمكافحة (داعش)، جيمس جيفري الذي كشف، الخميس 23 من الشهر الحالي، عن أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب تدرس فرض عقوبات جديدة بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي على النظام السوري، وذلك في سياق مواصلة “الضغط عليه”.
جيفري قال في مؤتمر صحفي: “أتوجه الأسبوع المُقبل (هذا الأسبوع) إلى بروكسل لمناقشة العقوبات والقضايا الاقتصادية الأخرى الخاصّة بمواصلة الضغط على نظام الأسد”. وأضاف: “سنتحدث بالطبع مع الأوروبيين الذين يطبقون أيضًا عقوبات ضدّ نظام الأسد ويدرسون فرض عقوبات إضافية، وسنتبادل الآراء حول ذلك”.
يأتي ذلك، في وقت بدأ فيه الأهالي في السويداء ودرعا جنوب البلاد بالخروج للتظاهر والاحتجاج تحت شعار “بدنا نعيش”.
معالجات أمنية تفتك بالسوريين
النظام الأسدي الذي اعتاد معالجة الأوضاع الداخلية بالقوة والترهيب وتكميم الأفواه، لم يشذَّ عن هذه القاعدة في تعامله مع مسلسل انهيار الليرة المستمر منذ عدّة سنوات، حيث أصدر رأس النظام بشار الأسد، في الأيام القليلة الماضية، مرسومين يقضيان باعتقال وتجريم كل من يروّج لأسعار العملات الأجنبية، أو يتاجر فيها، أو ينشر عن سعرها، عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بالسجن والغرامات المالية الباهظة، ليصبح اعتقال ونهب أموال السوريين، تحت سقف “سوريا الأسد” مشرعنًا، وفق ما يرى معارضون سوريون.
وفي سياق الفتك والترهيب الأسدي، قيّدت أجهزة النظام الأمنية حركة الصرافة في السوق السورية، وحصرتها بالمصرف المركزي، وأعقب مرسومي الأسد إغلاق العشرات من شركات الحوالات والصرافة بمختلف المحافظات؛ بذريعة الاتجار بالعملات الأجنبية والتلاعب بسعر صرف الدولار؛ كما تمت ملاحقة أفراد غير مرخصين كصرافين أو للعمل في قطاع الحوالات المالية (وهم أفراد يعملون في تحويل الأموال إلى الداخل السوري من تركيا وأوروبا ودول الخليج، دون مرور تلك الحوالات على نظام الحوالات الدولي والخضوع لأحكامه الجائرة)، وذلك من أجل إحكام قبضة المصرف المركزي على العملة الأجنبية وتجفيف أيّ متنفس أمام المواطنين؛ لتصريف مقتناياتهم من العملات الأجنبية بموجب سعر صرف حقيقي لليرة.
وبحسب مصادر إعلامية موالية ومعارضة، فقد تجاوز عدد مكاتب وشركات الصرافة التي أغلقتها الأجهزة الأمنية خمسين شركة ومكتبًا، وأبرز الشركات المتضررة من الملاحقة شركتي “الحافظ” و”إرسال”، في وقت حدد فيه المصرف المركزي سعر صرف الدولار مقابل الليرة بنحو 700 ليرة فقط، فيما بقي سعره في السوق السوداء يتراوح بين 1000 و1240 ليرة للدولار الواحد، وهو ما دفع المواطنين إلى الإحجام عن بيع العملات الصعبة، والتجار إلى عدم التصريف؛ خشية ملاحقتهم أمنيًا.
وفي سياق الترهيب وسياسات السطو المالي التي يتبعها نظام الأسد، ذكرت المصادر الإعلامية المعارضة أنّ حاكم المصرف المركزي السوري حازم قرفول طلب من شركات الصرافة جمع الدولار الأميركي، بغض النظر عن الوسائل، وغض الطرف عنهم، وأنّ قرفول قام فيما بعد ذلك بطلب معلومات عمليات التحويل (الداتا)، ليزجّ بالرافضين طلبه في السجون مع إغلاق مكاتبهم وشركاتهم، مشترطًا “دفع مبلغ خمسين مليون ليرة لكل من سيستمر في العمل”.
وتشير المصادر إلى أنّ الشركة الوحيدة التي تقوم حاليًا بصرف وشراء الدولار في السوق هي “الهرم”، وذلك بحسب نشرة “المركزي” والبالغة 700 ليرة مقابل الدولار الواحد، وأنّ “المركزي” يؤمن الدولار للمستوردين بسعر 900 ليرة (أي بزيادة مئتين عن تعرفته الرسمية)، وهو ما سيزيد من قيمة أسعار المواد في الأسواق المحلية.
83 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر
تدخل المصرف المركزي تمثل أيضًا بقرارات أصدرتها (لجنة تنفيذ السياسة النقدية) في أول اجتماعاتها للعام الجديد، فأقرت إصدار شهادات الإيداع بالليرة السورية للمرة الثانية، وفقًا لآجال مختلفة وباستخدام طريقة المزاد العلني وهي شهادات استثمارية تحقق فوائد مرتفعة قياسًا لاستثمارات مصرفية أخرى ولآجال قصيرة بسعر فائدة 4.5 بالمئة، وسيتم على أساسه احتساب القيمة بعد الخصم وبأجل لمدة عام، هدفها تشجيع البنوك العامة والخاصّة وأصحاب الأموال لتحويل أرصدتهم ومدخراتهم النقدية إلى عهدة “المركزي” وبمردود مادي.
واعترف رئيس وزراء النظام عماد خميس أمام مجلس الشعب الأسبوع الماضي، بعدم قدرة حكومته على حماية الليرة من الانهيار أمام الدولار، بعد تجاوز حاجز 1200 ليرة سورية، للدولار الواحد.
ويواجه الاقتصاد السوري رزمة ضغوط، تتمثل في عدم توفر السيولة النقدية في خزينة النظام لتمويل المستوردات وتغطية موازنة 2020، وارتفاع معدل التضخم (أسعار الاستهلاك للسلع المحلية والمستوردة)، وفي ارتفاع الدين العام، وانخفاض الناتج المحلي، وانعدام الإيرادات الوطنية لتصل إلى الصفر تقريبًا، وتجميد أرصدة المصرف المركزي، ما يعني انهيار المؤشرات الاقتصادية كافة. فضلًا عن هروب معظم الثروات من سورية، نتيجة تعطل دورة الإنتاج النفطي والصناعي والزراعي، وتعطل القطاعات المالية والسياحية والتجارية، إضافة إلى سلسلة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على النظام وعلى بعض كبار رموزه، والتي توجت بإقرار الرئيس الأميركي للقانون المعروف باسم “قيصر” (سيزر)، وهو ما انعكس على مجمّل الاقتصاد السوري، وجعل سورية في حالة حصار اقتصادي خانق.
هذا وكشفت دراسة حديثة أنّ إيداعات أصحاب رؤوس أموال “سوريين” في المصارف اللبنانية تزيد عن 25.4 بالمئة من إجمالي ودائع هذه البنوك.
(المرصد العمالي للدراسات والبحوث) في لبنان نشر أخيرًا، دراسةً حديثة حول آثار الأزمة اللبنانية على الاقتصاد السوري، بعنوان (لبنان أمام أزمة مالية مرتقبة، وآثار سيئة على الاقتصاد السوري)، أكّدت أنّ قيمة الودائع في المصارف اللبنانية نحو 45 مليار دولار، في أن حين إجمالي الودائع في المصارف اللبنانية 177 مليار دولار.
ونقلت صحيفة (الوطن) السورية المعروفة بولائها المطلق للأسد، عن الباحث الأكاديمي في كلية الاقتصاد علي كنعان قوله: إنّ “الإيداعات السورية المذكورة تخص رجال الأعمال، من دون احتساب إيداعات بعض المصارف وشركات التأمين الخاضعة تحت بند حساب المراسلين وغيره، وباحتسابها، فإنّ إجمالي رقم الإيداعات للسوريين يتخطى 50 مليار دولار في لبنان”.
وتشهد مناطق سيطرة النظام وضعًا اقتصاديًا مزريًا، من جراء هبوط سعر صرف الليرة السورية على نحو غير مسبوق تاريخيًا، أمام العملات الأجنبية، خاصّة الدولار الأميركي، وسط غلاء في أسعار السلع الأساسية وضعف الخدمات التي تقدمها حكومة الأسد في معظم المحافظات السورية.
ووفقًا لتصنيفات الأمم المتحدة، فإنّ معظم أبناء الشعب السوري اليوم يعيشون تحت خط الفقر في بلادهم، ذلك أنّ “خط الفقر الحاد وفق الحاجات الخمس الضرورية، التي يحددها البنك الدولي، يبلغ للأسرة السورية 213 ألف ليرة سورية، أي حوالي 42600 ليرة للفرد شهريًا، و1400 ليرة يوميًا لكل فرد، ما يعادل: 2.6 دولار يوميًا، وأعلى من خط الفقر المطلق الدولي بمقدار 37 بالمئة. حيث ذكر تقرير الأمم المتحدة عن الاحتياجات الإنسانية في سورية لعام 2019، أنّ 83 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر.
تفقير السوريين وأوهام “ليرتنا غير“
لم يجد نظام الأسد حلولًا لمعالجة أزمته الاقتصادية التي أفقرت السوريين غير تسويق الأوهام والاستخفاف بعقول الناس، فالمبادرة الأخيرة التي أطلقها موالون وسوّق لها إعلام الأسد كانت تحت مسمّى “ليرتنا غير”، وتمثلت بعرض السلع للبيع بقيمة ليرة سورية واحدة، بهدف “الدعم المعنوي لليرة”، وشغلت الشارع السوري ليوم واحد فقط، ولاقت هجومًا واسعًا في أوساط الموالين، لما فيها من احتيال كشفت عنه “غرفة تجارة ريف دمشق” التابعة للنظام، حيث أصدرت “الغرفة”، الثلاثاء 21 من الشهر الحالي، توضيحًا بخصوص المبادرة قائلة: إنّ “النقود المعدنية مِن فئة الليرة السوريّة الواحدة لا قيمة لها”.
وأوضحت “غرفة تجارة ريف دمشق” على صفحتها في موقع (فيسبوك)، أنّ “الحكومة سحبت النقود المعدنية مِن فئة (الليرة الواحدة) مِن التداول عام 2013″، وبالتالي فإنّ العملة الآنف ذكرها لا قيمة لها. مبيّنة أنّ “القرار رقم 3332 الصادر عام 2013 نصّ على اعتبار النقود المعدنية مِن فئة ليرة سورية إصدار عام 1991 مسحوبة من التداول…”، وذلك بموجب قرار وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في الحكومة.
وطالبت الغرفة التجارية مَن يعرض بضاعته بـ ليرة واحدة، “إن كان صادقًا ووطنيًا، بأن يجعل العرض مِن الوحدة النقدية فئة 100 أو 200 أو 500 ليرة.. وعندئذ يكون جدّيًا في دعم الليرة السورية ومساعدة المحتاجين”، وفقًا لمنشورها.
ورأى موالون ومعارضون أنّ مثل هذه المبادرات والحملات الدعائية لا تغني من جوع، ولن تساهم فعليًا في تخفيض سعر الصرف، إنما هي لكسب الوقت وبيع الوهم.
أما تصريحات مستشارة الأسد بثينة شعبان، التي أكدت فيها أنّ الاقتصاد السوري اليوم أفضل بخمسين مرة مما كان عليه في العام 2011، فقد أشعلت مواقع التواصل الاجتماعي بردات أفعال مستهجنة وساخرة، من قبل الموالين للنظام قبل المعارضين منهم.
عقوبات جديدة بعد إقرار “قانون قيصر”
الترهيب الأسدي المتلاحق للمواطنين السوريين سيؤدي، بحسب خبراء اقتصاد، إلى ترهل الأوضاع الاقتصادية مستقبلًا، الأمر الذي يسهل قابلية للتدخل الخارجي.
وبالعودة إلى تصريحات المبعوث الأمميّ الخاصّ إلى سورية جيمس جيفري، التي كشف فيها أنّ واشنطن وحلفاءها الأوروبيين سيناقشون الأسبوع المقبل في بروكسل إمكانية فرض عقوبات جديدة على حكومة النظام، ينتظر السوريون مزيدًا من التدهور في حياتهم المعيشية، خاصّة بعد أن وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب على قانون “قيصر” (سيزر) في وقت سابق، من العام 2019، ليصبح القانون الذي يفرض عقوبات على النظام السوري وداعميه نافذًا.
ونشر ترامب على حسابه الرسمي في موقع (تويتر) مقاطع من حفل توقيع ميزانية الدفاع للعام 2020، التي تتضمّن قانون “قيصر لحماية المدنيين في سورية”، الذي يفرض عقوبات اقتصادية كبيرة على نظام الأسد.
جيفري أكد أنّه ذاهب إلى بروكسل للحديث عن العقوبات والقضايا الاقتصادية الأخرى المتعلقة بمواصلة الضغط على نظام الأسد، موضحًا: “سنتحدث مع الأوروبيين الذين ينفذون، بالطبع، عقوبات ضدّ نظام الأسد ويفكرون في فرض عقوبات إضافية، لذلك سنجري حوارًا حول ذلك”.
بدوره قال المتحدث باسم وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، الخميس: إنّ “استئناف الهجوم على إدلب بالضربات الجوية وعمليات القصف التي تستهدف المدنيين أمرٌ غير مقبول، ويجب أن يتوقف”. مضيفًا أنّ “الاتحاد الأوروبي سيبقي على العقوبات ضدّ النظام، طالما هذه الهجمات الوحشية مستمرة”.
وعلى عكس التيار الدولي الساعي إلى تقويض نظام الأسد في اتجاه التخلص منه، عزا سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا، الحليف القوي لنظام بشار الأسد، تردي الأوضاع الاقتصادية في سورية إلى العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على النظام.
وقال لافروف خلال مؤتمر صحفي سنوي، عقده يوم الجمعة في موسكو، إنّ عملية “الإصلاح الاقتصادي” في سورية تأخرت، عازيًا السبب إلى العقوبات المفروضة على النظام السوري. وأردف: إنّ دولًا (لم يسمّها) وعدت برفع العقوبات مع بدء العملية السياسية، “لكن عندما بدأت قالوا إنّه من الضروري انتظار النتائج الملموسة لها”. وأضاف أن “بعض الدول تغير مواقفها تبعًا للوضع”.