يزداد التعقيد في الملف المحلي الجولاني. فالسكان المدنيون المتبقون تحت الاحتلال الإسرائيلي يواجهون أسرلة بلادهم وتهويدها، في ظل دعم أميركي مطلق، وتغاض دولي غير مسبوق، وتجاهل عربي ووطني إقليمي مفضوح، وإجراءات إسرائيلية تحاول الاستثمار بكل قوة للاستيلاء على خيرات المنطقة، وعلى ماضيها وحاضرها ومستقبلها بمنطق القوة، وبدعم من سلطة حيتان المال المتنفذة داخل المؤسسة الإسرائيلية، وزيف الإعلام وأجنداته المشبوهة.
مشكلة الجولانيين المتبقين في أرضهم المحتلة، والمهجرين منها في الوطن ودول الشتات، بعيدة كل البعد عن حسابات أهل السلطة في دمشق، التي ساهمت بشكل أو بآخر، منذ أكثر من نصف قرن، في ترسيخ وتعزيز المشاريع الإسرائيلية في الجولان المحتل، وصولًا إلى الاعتراف الأميركي الرسمي بشرعيته في الأرض السورية، وتجلى ذلك أكثر في تناسي وتجاهل واعتكاف دمشق عن ممارسة أدنى واجباتها الأخلاقية والوطنية والسياسية، في حماية الجولانيين ومصالحهم وحياتهم ومستقبلهم، في ظل الاحتلال المستمر منذ البلاغ العسكري رقم 66 الذي أصدره مؤسس المنظومة الأسدية في سورية (حافظ الأسد) واستمرّ وريثه في ذلك النهج حتى اليوم، مكتفيًا بذر الرماد في العيون، واستغلال الملف الجولاني وأقدس قضاياه للاستهلاك الإعلامي الممانع والمقاوم، من دون إطلاق رصاصة واحدة في مواجهة المحتلين.
إن إجراءات تغير الواقع الجولاني، وتهجينه تحت غطاء الحقوق الإسرائيلية، والشرعية الأميركية، والتخاذل الدولي، واستهلاك عربي وسوري بخطب خشبية، وشعارات رنانة فارغة الأهداف والمضامين، أصبحت مسرحًا مفتوحا أمام المؤسسة الإسرائيلية لتسرح وتمرح، كما يحلو لها في الأرض السورية.
وحدهم الجولانيون الصامدون تحت الاحتلال، وأشقاؤهم في الأمل والألم والحلم، من المهجرين والنازحين السوريين، وقوافل الأحرار السوريين والعرب الذين شعروا بضرورة الوقوف إلى جانبهم، معنويًا وإعلاميًا، سيكونون أمام اختبار جديد في مواجهة المحتل الإسرائيلي هذه المرة، بمنع تركيعهم، وسلبهم مستقبل أجيالهم، ومصادرة حقهم في الحياة على ثرى أرضهم.
بفخر واعتزاز، واجه الجولانيون وحدهم، على مدار أكثر من نصف قرن، كل المشاريع الإسرائيلية، بدءًا من “مشروع الدويلة الدرزية”، ومرورًا بسلخ هويتهم وانتمائهم وتجنيدهم في الجيش الإسرائيلي، وليس انتهاء بسلبهم حقهم في البقاء والحياة، فوق ثرى أرضهم وترابهم، كأصحاب شرعيين لهذه الأرض الطيبة التي توارثوها عبر أكثر من أحد عشر ألف عام من تاريخ الحضارة السورية القديمة التي كانت، ولا زالت، تنبض بالحياة.
الطوربينات الهوائية العملاقة هي اختبار جديد يواجه السوريين في الجولان المحتل، أتمنى أن يعبروه كما في تجارب سابقة بأمان. اختبار سيشكل تحديًا مهما أمامهم، تجاوزا فيه خلافاتهم وتشعباتهم وانتماءاتهم المختلفة، في سبيل أن يضمنوا حياة أفضل لأبنائهم وأجيالهم القادمة، ضد حيتان المال الإسرائيلية.
الطوربينات الهوائية العملاقة، المزمع إقامتها في الجولان السوري المحتل، ستقضم 4500 دونم من أراضي المزارعين السوريين في الجولان المحتل، وستحمل تهديدًا وخطرًا على الطبيعة والبيئة والصحة البشرية في الجولان، وستفتح المجال أمام مصادرة مئات الدونمات الزراعية، لشق طرق جديدة لإنجاح مشروع الطوربينات الهوائية، بصفته مشروعًا قوميًا إسرائيليًا يحتل الأولوية. يستهدف العماد الأساس لسكان الجولان. وهو قطاع الزراعة. وستمهد الطريق لتهجيرهم “اختياريًا”، تحت وطأة سلامة الأبناء والأحفاد، في الوقت الذي ستجني فيه الشركة والحكومة الإسرائيلية الملايين من عائدات المشروع، الذي سيهدد أيضًا كامل المنطقة المحاذية للشريط الحدودي الشائك في الجولان السوري المحتل.
إن “إسرائيل” لم تتوقف عن مشاريعها الاستيطانية في الجولان، وهي تصرّ على تنفيذ مشروع المراوح، على الرغم من المعارضة الشديدة له، لما يحقق لها من أرباح وأهداف استراتيجية. وهذا ما جعل الجولانيين يعملون من أجل الحفاظ على الأرض السورية، ومنع تحقيق مثل هذه المشاريع الاستيطانية. التي ستؤدي إلى مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي، ومنع أصحابها من العمل فيها وحرمانهم من حقهم فيها.
إن تزامن الإعلان عن تنفيذ مشروع الطوربينات الهوائية، مع الاعتراف الأميركي بـ “سيادة إسرائيل” على الجولان، ليس صدفة. إنه يؤكد حقيقة السياسات الكبرى، ليس السياسية فحسب، بل الاقتصادية أيضًا التي تسعى إلى تغيير طابع الجولان وهويته، من دون اكتراث بالسكان الأصليين أصحاب هذه الأرض.
إن مشروع المراوح هو حلقة من ضمن مشاريع استثمار الموارد الطبيعية لأرض الجولان، والاستفادة منها لخدمة مشاريع الاحتلال، على حساب عيشنا ورفاهنا، وعلى حساب الأجيال التي لم تولد بعد من أبنائنا.
لقد أصبح واضحًا للجميع، اليوم، أن التصدي لهذا المشروع يوجب العمل الجاد على أكثر من مستوى محلي ووطني. وضرورة التنبه إلى المخاطر والدلالات البعيدة المدى، التي تحملها هذه المشاريع بالنسبة إلى مستقبل وجود السوريين على هذه الأرض الطيبة.